الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (132) قوله تعالى: ووصى : قرئ من وصى، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصى، وأوصى رباعيا وهي قراءة نافع وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام، وقيل أوصى ووصى بمعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "بها" فيه ستة أقوال، أحدها: أنه يعود على الملة في قوله: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم"، قال الشيخ: "وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكر [المهدوي] غيره" والزمخشري - رحمه الله - لم يذكر هذا، وإنما ذكر عوده على قوله "أسلمت" لتأويله بالكلمة، قال الزمخشري: "والضمير في "بها" لقوله "أسلمت لرب العالمين" على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: "وجعلها كلمة باقية" إلى قوله: "إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني" وقوله "كلمة باقية" دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة. انتهى. الثاني: أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله "أسلمت" كما تقدم تقريره عن الزمخشري. قال ابن عطية: "وهو أصوب لأنه أقرب مذكور". الثالث: أنه يعود على متأخر، وهو الكلمة المفهومة من قوله: "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون". الرابع: أنه [ ص: 125 ] يعود إلى كلمة الإخلاص وإن لم يجر لها [ذكر] . الخامس: أنه يعود على الطاعة للعلم بها أيضا. السادس: أنه يعود على الوصية المدلول عليها بقوله: "ووصى"، و "بها" يتعلق لوصى. و "بنيه" مفعول به.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ويعقوب" الجمهور على رفعه وفيه قولان، أظهرهما: أنه عطف على "إبراهيم" ويكون مفعوله محذوفا أي: ووصى يعقوب بنيه أيضا، والثاني: أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره محذوف تقديره ويعقوب قال: يا بني إن الله اصطفى. وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفا على "بنيه"، أي: ووصى إبراهيم يعقوب أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يا بني" فيه وجهان، أحدهما: أنه من مقول إبراهيم، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم أو على قراءته منصوبا. والثاني: أنه من مقول يعقوب إن قلنا رفعه بالابتداء ويكون قد حذف مقول إبراهيم للدلالة عليه تقديره: "ووصى إبراهيم بنيه يا بني، وعلى كل تقدير فالجملة من قوله: "يا بني" وما بعدها [منصوبة] بقول محذوف على رأي البصريين، أي: فقال يا بني، وبفعل الوصية لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين، وقال الراجز:


                                                                                                                                                                                                                                      731 - رجلان من ضبة أخبرانا إنا رأينا رجلا عريانا



                                                                                                                                                                                                                                      بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لإجراء الخبر مجرى القول، [ ص: 126 ] ويؤيد تعلقها بالوصية قراءة ابن مسعود: "أن يا بني" بـ "أن" المفسرة، ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما ينسبك منه مصدر، ومن أبى جعلها مفسرة وهم الكوفيون يجعلونها زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقوب علم أعجمي ولذلك لا ينصرف، ومن زعم أنه سمي يعقوب لأنه ولد عقب العيص أخيه وكانا توءمين أو لأنه كثر عقبه ونسله فقد وهم; لأنه كان ينبغي أن ينصرف لأنه عربي مشتق. ويعقوب أيضا ذكر الحجل، إذا سمي به المذكر انصرف، والجمع يعاقبة ويعاقيب.

                                                                                                                                                                                                                                      و "اصطفى" ألفه عن ياء، تلك الياء منقلبة عن واو لأنها من الصفوة، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعدا، قلبت ياء ثم انقلبت ألفا. و "لكم" أي لأجلكم، والألف واللام في "الذين" للعهد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فلا تموتن إلا" هذا نهي في الصورة عن الموت، وهو في الحقيقة نهي عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك: "لا تصل إلا وأنت خاشع"، فنهيك له ليس عن الصلاة، إنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته، والنكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة وهي غير منهي عنها هي إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة، كأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة، وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حق هذا الموت ألا يجعل فيهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل تموتن: تموتونن: النون الأولى علامة الرفع والثانية المشددة للتوكيد، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع; لأن نون التوكيد أولى [ ص: 127 ] بالبقاء لدلالتها على معنى مستقل فالتقى ساكنان: الواو والنون الأولى المدغمة فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة تدل عليها وهكذا كل ما جاء من نظائره. "إلا وأنتم مسلمون" هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة، "وأنتم مسلمون" مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال كأنه قال تعالى "لا تموتن على كل حال إلا على هذه الحال" ، والعامل فيها ما قبل إلا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية