الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 229 ] آ. (171) قوله تعالى: ومثل الذين كفروا : اختلف الناس في هذه الآية اختلافا كثيرا واضطربوا اضطرابا شديدا، وأنا بعون الله قد لخصت أقوالهم مهذبة، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلا بعد معرفة المعنى المذكور في هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: معناها أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق. ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به. ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق، ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به. فهذه أربعة أقوال.

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى القول الأول: يكون التقدير: "ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم كمثل الرعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل شيئا". وقيل: يكون التقدير: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه لا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه في عناء، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة إلا العناء.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القول - "إلا أن قوله "إلا دعآء وندآء" لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئا". قال الشيخ: "ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كل جهة، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء فكذلك مدعو الكافر من الصنم، والصنم لا يسمع، فضعف عنده هذا القول" قال: "ونحن نقول: التشبيه وقع في مطلق الدعاء [ ص: 230 ] لا في خصوصيات المدعو، فتشبيه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة لا في خصوصيات المنعوق به".

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل في هذا القول: - أعني قول من قال التقدير: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم - إن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبل فيجيبه الصدى، فالمعنى: بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاء نفسه ونداءها، فعلى هذا القول يكون فاعل "يسمع" ضميرا عائدا على الذين ينعق، ويكون العائد على "ما" الرابط للصلة بالموصول محذوفا لفهم المعنى، تقديره: بما لا يسمع منه، وليس فيه شرط جواز الحذف فإنه جر بحرف غير ما جر به الموصول، وأيضا فقد اختلف متعلقاهما، إلا أنه قد ورد ذلك في كلامهم. وأما على القولين الأولين فيكون فاعل "يسمع" ضميرا يعود على "ما" الموصولة، وهو المنعوق به. وقيل: المراد بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون، والمعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة; كمثل الناعق بالغنم. فعلى هذه الأقوال كلها يكون "مثل" مبتدأ و "كمثل" خبره، وليس في الكلام حذف إلا جهة التشبيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدمة فقيل: معناه: ومثل الذين كفروا في دعائهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه كمثل بهائم الذي ينعق، فهو على حذف قيد في الأول وحذف مضاف في الثاني. وقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله ورسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت، فيراد بالذي ينعق الذي ينعق به ويكون هذا من القلب، وقال قائل هذا: كما تقولون: "دخل [ ص: 231 ] الخاتم في يدي والخف في رجلي". وإلى هذا التفسير ذهب الفراء وأبو عبيدة وجماعة، إلا أن القلب لا يقع على الصحيح إلا في ضرورة أو ندور.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على القول الثالث فتقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الناعق بغنمه، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطب به داعيه إلا دوي الصوت دون إلقاء فكر وذهن، كما أن البهيمة كذلك، فالكلام على حذف مضاف من الأول. قال الزمخشري: "ويجوز أن يراد بـ "ما لا يسمع" الأصم الأصلج الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير من غير فهم للحروف" وهذا منه جنوح إلى جواز إطلاق "ما" على العقلاء، أو لما تنزل هذا منزلة من لا يسمع من البهائم أوقع عليه "ما".

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على القول الرابع - وهو اختيار سيبويه في هذه الآية - وتقديره عنده: "مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به" واختلف الناس في فهم كلام سيبويه، فقائل: هو تفسير معنى، وقيل: تفسير إعراب، فيكون في الكلام حذفان: حذف من الأول وهو حذف "داعيهم" وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذف من الثاني وهو حذف المنعوق، وقد أثبت نظيره في الأول، فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتا لا يعرفون ما وراءها. وفي هذا الوجه حذف كثير، إذ فيه حذف معطوفين إذ التقدير [ ص: 232 ] الصناعي: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق بالمنعوق به. وقد ذهب إليه جماعة منهم أبو بكر ابن طاهر، وابن خروف والشلوبين، قالوا: العرب تستحسن هذا، وهو من بديع كلامها، ومثله قوله: "وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء" تقديره: وأدخل يدك في جيبك تدخل، وأخرجها تخرج، فحذف "تدخل" لدلالة "تخرج" وحذف "وأخرجها" لدلالة: "وأدخل"، قالوا: ومثله قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      812 - وإني لتعروني لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر



                                                                                                                                                                                                                                      لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين بلله القطر لأنهما ضدان، إذ هما حركة وسكون، ولكن تقديره: إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الأقوال كلها إنما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به، أما إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملة بجملة فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر إلى المعنى، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب. قال الراغب: "فلما شبه قصة [ ص: 233 ] الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق قدم ذكر الناعق لينبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به".

                                                                                                                                                                                                                                      والكاف ليست بزائدة خلافا لبعضهم; لأن الصفة ليست عين الصفة الأخرى فلا بد من الكاف، حتى إنه لو جاء الكلام دون الكاف اعتقدنا وجودها تقديرا تصحيحا للمعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تلخص مما تقدم أن "مثل الذين" مبتدأ، و "كمثل الذي" خبره: إما من غير اعتقاد حذف، أو على حذف مضاف من الأول، أي: مثل داعي الذين، أو من الثاني: أي: كمثل بهائم الذي، أو على حذفين: حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول كما تقدم تحرير ذلك كله. وهذا نهاية القول في هذه الآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      والنعيق: دعاء الراعي وتصويته بالغنم، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      813 - فانعق بضأنك يا جرير فإنما     منتك نفسك في الخلاء ضلالا



                                                                                                                                                                                                                                      يقال: نعق بفتح العين ينعق بكسرها، والمصدر: النعيق والنعاق والنعق، وأما "نعق الغراب" فبالمعجمة، وقيل: بالمهملة أيضا في الغراب وهو غريب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا دعاء" هذا استثناء مفرغ لأن قبله "يسمع" ولم يأخذ مفعوله. وزعم بعضهم أن "إلا" زائدة، فليس من الاستثناء في شيء. وهذا قول مردود، وإن كان الأصمعي قد قال بزيادة "إلا" في قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 234 ]

                                                                                                                                                                                                                                      814 - حراجيج لا تنفك إلا مناخة     على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا



                                                                                                                                                                                                                                      فقد رد الناس عليه، ولم يقبلوا قوله. وفي البيت كلام تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأورد بعضهم هنا سؤالا معنويا: وهو قوله: "لا يسمع إلا دعاء ونداء" ليس المسموع إلا الدعاء والنداء فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء، وكأنه قيل: لا يسمعون إلا المسموع، وهذا لا يجوز؟ فالجواب أن في الكلام إيجازا، وإنما المعنى: لا تفهم معاني ما يقال لهم، كما لا تميز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوت بها، وإنما تفهم شيئا يسيرا قد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة، فكأنه قيل: ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأغراض. وهذا السؤال من أصله ليس بشيء، ولولا أن الشيخ ذكره لم أذكره.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا سؤال آخر: وهو هل هذا من باب التكرار لما اختلف اللفظ، فإن الدعاء والنداء واحد؟ والجواب أنه ليس كذلك، فإن الدعاء طلب الفعل والنداء إجابة الصوت. ذكر ذلك علي بن عيسى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية