الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (109) قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم : الكلام في "لو" كالكلام فيها عند قوله: "يود أحدهم لو يعمر"، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا، وقال: هي مفعول "يود"، أي: ود كثير ردكم. ومن أبى جعل جوابها محذوفا تقديره: لو يردونكم كفارا لسروا - أو فرحوا - بذلك، وقال بعضهم: تقديره: لو يردونكم كفارا لودوا ذلك، فود دالة على الجواب وليست بجواب لأن "لو" لا يتقدمها جوابها كالشرط. وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد; وذلك أن "لو" حرف لما كان سيقع لوقوع [ ص: 67 ] غيره فيلزم من تقديره ذلك أن ودادتهم ذلك لم تقع، لأن الموجب لفظا منفي معنى، والغرض أن ودادتهم ذلك واقعة باتفاق، فتقدير: لسروا ونحوه هو الصحيح. و "يرد" هنا فيه قولان، أحدهما - وهو الواضح - أنها المتعدية لمفعولين بمعنى صير، فضمير المخاطبين مفعول أول، و "كفارا" مفعول ثان، ومن مجيء رد بمعنى صير قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      676 - رمى الحدثان نسوة آل حرب بمقدار سمدن له سمودا     فرد شعورهن السود بيضا
                                                                                                                                                                                                                                      ورد وجوههن البيض سودا



                                                                                                                                                                                                                                      وجعل أبو البقاء "كفارا" حالا من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد، وهو ضعيف لأن الحال يستغنى عنها غالبا، وهذا لا بد منه.

                                                                                                                                                                                                                                      و "من بعد" متعلق بيردونكم، و "من" لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حسدا" نصب على المفعول له، وفيه الشروط المجوزة لنصبه، والعامل فيه "ود" أي: الحامل على ودادتهم ردكم كفارا حسدهم لكم. وجوزوا فيه وجهين آخرين، أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وإنما لم يجمع لكونه مصدرا، أي: حاسدين، وهذا ضعيف; لأن مجيء المصدر حالا لا يطرد. الثاني: أنه منصوب على المصدرية بفعل مقدر من لفظه أي يحسدونكم حسدا، والأول أظهر الثلاثة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من عند أنفسهم" في هذا الجار ثلاثة أوجه، أحدها، أنه متعلق بود، أي: ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين، و "من" لابتداء [ ص: 68 ] الغاية. الثاني: أنه صفة لـ"حسدا" ، فهو في محل نصب، ويتعلق بمحذوف أي: حسدا كائنا من قبلهم وشهوتهم، ومعناه قريب من الأول. الثالث: أنه متعلق بيردونكم، و "من" للسببية، أي: يكون الرد من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من بعد ما" متعلق بـ"ود" ، و "من" للابتداء، أي: إن ودادتهم ذلك ابتدأت من حين وضوح الحق وتبينه لهم، فكفرهم عناد، و "ما" مصدرية أي: من بعد تبين الحق. والحسد: تمني زوال نعمة الإنسان، المصدر: حسد وحسادة.

                                                                                                                                                                                                                                      والصفح قريب من العفو، مأخوذ من الإعراض بصفحة العنق، وقيل: معناه التجاوز، من تصفحت الكتاب أي: جاوزت ورقه، والصفوح: من أسماء الله، والصفوح أيضا: المرأة تستر وجهها إعراضا، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      677 - صفوح فما تلقاك إلا بحيلة     فمن مل منها ذلك الوصل ملت



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما تقدموا لأنفسكم من خير" كقوله: "ما ننسخ من آية" فيجوز في "ما" أن تكون مفعولا بها وأن تكون واقعة موقع المصدر، ويجوز في "من خير" الأربعة الأوجه التي في "من آية" من كونه مفعولا به أو حالا أو تمييزا أو متعلقا بمحذوف. و "من" تبعيضية، وقد تقدم تحقيقها فليراجع ثمة. و "لأنفسكم" متعلق بتقدموا، أي: لحياة أنفسكم، فحذف، و "تجدوه" جواب الشرط، وهي المتعدية لواحد لأنها بمعنى الإصابة، ومصدرها الوجدان بكسر الواو كما تقدم، ولا بد من حذف مضاف أي: تجدوا ثوابه، وقد جعل الزمخشري الهاء عائدة على "ما" وهو يريد ذلك، لأن الخير المتقدم سبب [ ص: 69 ] منقض لا يوجد، إنما يوجد ثوابه. قوله: "عند الله" يجوز فيه وجهان. أحدهما: أنه متعلق بـ"تجدوه". والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي: تجدوا ثوابه مدخرا معدا عند الله، والظرفية هنا مجاز نحو: "لك عند فلان يد" .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية