الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (168) قوله تعالى: مما في الأرض حلالا طيبا : "حلالا" فيه خمسة أوجه، أحدها: أن يكون مفعولا بـ "كلوا"، و "من" على هذا فيها [ ص: 222 ] وجهان، أحدهما: أن تتعلق بكلوا، ويكون معناها ابتداء الغاية. والثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من "حلالا" وكانت في الأصل صفة له فلما قدمت عليه انتصبت حالا، ويكون معنى "من" التبعيض. الثاني: أن يكون انتصاب "حلالا" على أنه نعت لمفعول محذوف، تقديره: شيئا أو رزقا حلالا ذكره مكي، واستبعده ابن عطية، ولم يبين وجه بعده، والذي يظهر في بعده أن "حلالا" ليس صفة خاصة بالمأكول، بل يوصف به المأكول وغيره، وإذا لم تكن الصفة خاصة لا يجوز حذف الموصوف. الثالث: أن ينتصب "حلالا" على أنه حال من "ما" بمعنى الذي، أي: كلوا من الذي في الأرض حال كونه حلالا. الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: أكلا حلالا، ويكون مفعول "كلوا" محذوفا، و " ما في الأرض " صفة لذلك المفعول المحذوف، ذكره أبو البقاء، وفيه من الرد ما تقدم على مكي، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفا بل تكون "من" مزيدة على مذهب الأخفش تقديره: كلوا ما في الأرض أكلا حلالا. الخامس: أن يكون حالا من الضمير العائد على "ما" قاله ابن عطية، يعني بالضمير الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع صلة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "طيبا" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون صفة لحلالا، أما على القول بأن "من" للابتداء متعلقة بـ "كلوا" فهو واضح، وأما على القول بأن "مما في الأرض" حال من "حلالا"، فقال أبو البقاء: "ولكن موضعها بعد [ ص: 223 ] الجار والمجرور، لئلا يفصل بالصفة بين الحال وذي الحال" وهذا الذي قاله ليس بشيء فإن الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوع، تقول: "جاءني زيد الطويل راكبا" بل لو قدمت الحال على الصفة فقلت: "جاءني زيد راكبا الطويل" كان في جوازه نظر. الثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف أو حالا من المصدر المعرفة المحذوف أي: أكلا طيبا. الثالث: أن يكون حالا من الضمير في "كلوا" تقديره: مستطيبين، قاله ابن عطية، قال الشيخ: "وهذا فاسد في اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأن "الطيب" اسم فاعل فكان ينبغي أن تجمع لتطابق صاحبها فيقال: طيبين، وليس "طيب" مصدرا فيقال: إنما لم يجمع لذلك. وأما المعنى فإن "طيبا" مغاير لمعنى "مستطيبين" لأن الطيب من صفات المأكول والمستطيب من صفات الآكلين، تقول: طاب لزيد الطعام، ولا تقول: "طاب زيد الطعام" بمعنى استطابه".

                                                                                                                                                                                                                                      والحلال: المأذون فيه، ضد الحرام الممنوع منه. [يقال:] حل يحل بكسر العين في المضارع، وهو القياس لأنه مضاعف غير متعد، ويقال: حلال وحل، كحرام وحرم، وهو في الأصل مصدر، ويقال: "حل بل" على سبيل الإتباع كحسن بسن. وحل بمكان كذا يحل بضم العين وكسرها، وقرئ: "فيحل عليكم غضبي" بالوجهين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "خطوات" قرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص: خطوات بضم الخاء والطاء، وباقي السبعة بسكون الطاء، وقرأ أبو السمال "خطوات" [ ص: 224 ] بفتحها، ونقل ابن عطية وغيره عنه أنه قرأ "خطوات" بفتح الخاء والطاء، وقرأ علي وقتادة والأعمش بضمها والهمز.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الجمهور والأولى من قراءتي أبي السمال فلأن "فعلة" الساكنة العين السالمتها إذا كانت اسما جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجه - وهي لغات مسموعة عن العرب -: السكون وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين تخفيفا. وأما قراءة أبي السمال التي نقلها ابن عطية فهي جمع خطوة بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضم والفتح: أن المفتوح مصدر، دالة على المرة من خطا يخطو إذا مشى، والمضموم اسم لما بين القدمين كأنه اسم للمسافة، كالغرفة اسم للشيء المغترف، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحد ذكره أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة علي ففيها تأويلان، أحدهما: - وبه قال الأخفش - أن الهمزة أصل وأنه من الخطإ، و "خطؤات" جمع "خطأة" إن سمع، وإلا فتقديرا، وتفسير مجاهد إياه بالخطايا يؤيد هذا، ولكن يحتمل أن يكون مجاهد فسره بالمرادف. والثاني: أنه قلب الهمزة عن الواو لأنها جاورت الضمة قبلها فكأنها عليها، لأن حركة الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إنه لكم" قال أبو البقاء: "إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإعلام [ ص: 225 ] بحاله، وهو أبلغ من الفتح، لأنه إذا فتح الهمزة صار التقدير: لا تتبعوه لأنه عدو لكم، واتباعه ممنوع وإن لم يكن عدوا لنا، ومثله:


                                                                                                                                                                                                                                      810 - لبيك إن الحمد لك . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      كسر الهمزة أجود لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كل حال وكذلك التلبية" انتهى. يعني أن الكسر استئناف فهو بعض إخبار بذلك، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعين، لأنه يجوز أن يراد التعليل مع كسر الهمزة فإنهم نصوا على أن "إن" المكسورة تفيد العلة أيضا، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقال: قراءة الكسر أولى لأنها محتملة للإخبار المحض بحاله وللعلية، وأما المفتوحة فهي نص في العلية، لأن الكلام على تقدير لام العلة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية