الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (145) قوله تعالى: ولئن أتيت : فيه قولان، أحدهما قول سيبويه وهو أن اللام هي الموطئة للقسم المحذوف و "إن" شرطية، فقد اجتمع شرط وقسم، وسبق القسم فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر، فلذلك جاء الجواب للقسم بما النافية وما بعدها، وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا لأنه متى حذف الجواب وجب مضي فعل الشرط إلا في ضرورة، و "تبعوا" وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى، أي: ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلا ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطا في الماضي.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: وهو قول الفراء - وينقل أيضا عن الأخفش والزجاج - أن "إن" بمعنى "لو"، ولذلك كانت "ما" في الجواب، فجعل "ما تبعوا" جوابا لإن لأنها بمعنى لو، أما إذا لم تكن بمعناها فلا تجاب بـ "ما" وحدها، بل لا بد من الفاء، تقول: إن تزرني فما أزورك، ولا يجيز الفراء: "ما أزورك" بغير فاء. وقال ابن عطية: "وجاء جواب "لئن" كجواب لو، وهي ضدها في أن "لو" تطلب المضي والوقوع و "إن" تطلب الاستقبال، لأنهما جميعا يترتب قبلهما القسم، فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر هذا قول سيبويه" قال الشيخ: "هذا فيه تثبيج وعدم نص على المراد; لأن أوله يقتضي أن الجواب لـ "إن" وقوله بعده: الجواب للقسم يدل على أنه [ ص: 165 ] ليس لإن، وتعليله بقوله: "لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون "ما تبعوا" جوابا للقسم، بل لكونه جوابا لإن، وقوله: "قول سيبويه" ليس في كتاب سيبويه ذلك، إنما فيه أن "ما تبعوا" جواب القسم، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل، قال سيبويه: "وقالوا: لئن فعلت ما فعل يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل" .

                                                                                                                                                                                                                                      وتلخص مما تقدم أن قوله: "ما تبعوا" فيه قولان، أحدهما: أنه جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط ولذلك لم يقترن بالفاء. والثاني: أنه جواب لإن إجراء لها مجرى لو. وقال أبو البقاء: "ما تبعوا" أي: لا يتبعوا، فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت "ما" حملا على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب لأن فعل الشرط ماض، وقال الفراء: إن هنا بمعنى لو" وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضيا، وهذا منه غير مرضي، لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المقالة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما أنت بتابع قبلتهم" "ما" تحتمل الوجهين أعنى كونها حجازية أو تميمية، فعلى الأول يكون "أنت" مرفوعا بها، و "بتابع" في محل نصب، وعلى الثاني يكون مرفوعا بالابتداء و "بتابع" في محل رفع، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط وجوابه لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيدا في نفي تبعيته قبلتهم. وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: "ما تبعوا قبلتك" من وجوه أحدها: كونها اسمية متكرر فيها الاسم، مؤكد نفيها بالباء.

                                                                                                                                                                                                                                      ووحد القبلة وإن كانت مثناة لأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين: إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة، وإما لأجل المقابلة في [ ص: 166 ] اللفظ، لأن قبله "ما تبعوا قبلتك". وقرئ "بتابع قبلتهم" بالإضافة تخفيفا لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان. واختلف في هذه الجملة: هل المراد بها النهي أي: لا تتبع قبلتهم ومعناه الدوام على ما أنت عليه لأنه معصوم من اتباع قبلتهم أو الإخبار المحض بنفي الاتباع. والمعنى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟ قولان مشهوران.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولئن اتبعت" كقوله: "ولئن أتيت". وقوله: "إنك" جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره، قال الشيخ: "لا يقال إنه يكون جوابا لهما لامتناع ذلك لفظا ومعنى، أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له [فيه] ، لأن القسم إنما جيء به توكيدا للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملا، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له، وأما اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط، فإذا كانت جواب شرط احتيجت إلى مزيد رابط وهو الفاء ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تكون جوابا لهما معا".

                                                                                                                                                                                                                                      و "إذن" حرف جواب وجزاء بنص سيبويه، وتنصب المضارع بثلاثة شروط: أن تكون صدرا، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم [ ص: 167 ] وألا يكون الفعل حالا، ودخلت هنا بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر، فلم تتقدم لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم، فلو تقدمت لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل ورؤوس الآي.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وتحرير معنى "إذن" صعب اضطرب الناس في معناها وفي فهم كلام سيبويه فيها، وهو أن معناها الجواب والجزاء" قال: "والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا أو تقديرا، وما بعدها في اللفظ أو التقدير وإن كان متسببا عما قبلها فهي في ذلك على وجهين، أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها مثال ذلك: أزورك. فتقول: إذا أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها شروط مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم أو منبهة على مسبب حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عليه، وذلك، نحو: "إن تأتني إذا آتك"، و "والله إذا لأفعلن" فلو أسقطت "إذا" لفهم الارتباط، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: "أزورك" فتقول: "إذا أنا أكرمك"، وجاز توسطها نحو: "أنا إذا أكرمك"، وتأخرها. وإذا تقرر هذا فجاءت "إذا" في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه". انتهى كلامه.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها وهو الأكثر، وهي [ ص: 168 ] مركبة من همزة وذال ونون، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب فقلبوها في الوقف ألفا وكتبوها الكتاب على ذلك، وهذا نهاية القول فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء في هذا المكان "من بعد ما جآءك" وقال قبل هذا: "بعد الذي جآءك" وفي الرعد: "بعد ما جاءك" فلم يأت بـ "من" الجارة إلا هنا، واختص موضعا بـ "الذي"، وموضعين بـ "ما"، فما الحكمة في ذلك؟ والجواب ما ذكره بعضهم وهو أن "الذي" أخص، و "ما" أشد إبهاما، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه لأنه علم بكل أصول الدين، وحيث أتى بلفظ "ما" أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين، أحدهما: القبلة، والآخر: بعض الكتاب لأنه أشار إلى قوله: "ومن الأحزاب من ينكر بعضه". قال: "وأما دخول "من" ففائدته ظاهرة وهي بيان أول الوقت الذي وجب [على] عليه السلام أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم، والذي يقال في هذا: إنه من باب التنوع في البلاغة".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية