الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (199) قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث : استشكل الناس مجيء "ثم" هنا من حيث إن الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى; لأن قريشا كانت تقف بمزدلفة وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس، فكيف يجاء بـ "ثم" التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ وفي ذلك أجوبة: أحدها: أن الترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسن ذلك أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنما المأمور به ذكر الله إذا فعلت الإفاضة. والثاني: أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله: "واتقون يا أولي" ففي الكلام تقديم وتأخير وهو بعيد. الثالث: أن تكون "ثم" بمعنى الواو، وقد قال به بعض النحويين، فهي لعطف كلام على كلام منقطع من الأول. الرابع: أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى، والمخاطبون بها جميع [ ص: 335 ] الناس، وبهذا قال جماعة كالضحاك ورجحه الطبري، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن وعلى هذا فـ "ثم" على بابها، قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف موقع "ثم" ؟ قلت: نحو موقعها في قولك: "أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم" تأتي بـ "ثم" لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال: "ثم أفيضوا" لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والثانية خطأ". قال الشيخ: "وليست الآية نظير المثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن "ثم" تسلب الترتيب وأن لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء "ثم" لتفاوت ما بينها، ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم". وهذا الذي ناقش الشيخ به الزمخشري تحامل عليه، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين. وسيأتي له نظائر، وبمثل هذه الأشياء لا يرد كلام مثل هذا الرجل.

                                                                                                                                                                                                                                      و "من حيث" متعلق بأفيضوا، و "من" لابتداء الغاية، و "حيث" هنا على بابها من كونها ظرف زمان، وقال القفال: "هي هنا لزمان الإفاضة" وقد تقدم أن هذا قول الأخفش، وتقدم دليله، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين ليقع الجواب عن مجيء "ثم" هنا، ولا يفيد ذلك لأن الزمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أفاض الناس" في محل جر بإضافة "حيث" إليها. والجمهور على رفع السين من "الناس". وقرأ سعيد بن جبير: "الناسي" وفيها تأويلان، [ ص: 336 ] أحدهما: أنه يراد به آدم عليه السلام، وأيدوه بقوله: "فنسي ولم نجد له عزما". والثاني: أن يراد به التارك للوقوف بمزدلفة، وهم جمع الناس، فيكون المراد بالناسي جنس الناسين. قال ابن عطية: "ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول: "الناس كالقاض والهاد" قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه قراءة فلا أحفظه". قال الشيخ: لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشعر، وأجازه الفراء في الكلام، وأما قوله: "لم أحفظه" قد حفظه غيره، حكاها المهدوي قراءة عن سعيد بن جبير أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "واستغفروا الله"" استغفر" يتعدى لاثنين أولهما بنفسه، والثاني بـ "من"، نحو: استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      890 - أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

                                                                                                                                                                                                                                      هذا مذهب سيبويه وجمهور الناس. وقال ابن الطراوة: إنه يتعدى إليهما بنفسه أصالة، وإنما يتعدى بـ "من" لتضمنه معنى ما يتعدى بها، فعنده "استغفرت الله من كذا" بمعنى تبت إليه من كذا، ولم يجئ "استغفر" في القرآن متعديا إلا للأول فقط، فأما قوله تعالى: "واستغفر لذنبك"" واستغفري لذنبك"" فاستغفروا لذنوبهم" فالظاهر أن هذه اللام لام العلة [ ص: 337 ] لا لام التعدية، ومجرورها مفعول من أجله لا مفعول به. وأما "غفر" فذكر مفعوله في القرآن تارة: "ومن يغفر الذنوب إلا الله"، وحذف أخرى: "ويغفر لمن يشاء". والسين في "استغفر" للطلب على بابها. والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به، أي: من ذنوبكم التي فرطت منكم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية