الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (211) قوله تعالى: سل : قرأ الجمهور: "سل" وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون من لغة: سال يسال مثل: خاف يخاف، وهل هذه الألف مبدلة من همزة أو واو أو ياء؟ خلاف تقدم في قوله: "فإن لكم ما سألتم" فحينئذ يكون الأمر منها: "سل" مثل "خف"، لما سكنت اللام حملا للأمر على المجزوم التقى ساكنان فحذفت العين لذلك، فوزنه على هذا فل. والثاني: أن تكون من سأل بالهمز، والأصل: اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السين تخفيفا، واعتددنا بحركة النقل فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ووزنه أيضا: فل بحذف العين، وإن كان المأخذ مختلفا. وروى عباس عن أبي عمرو: "اسأل" على الأصل من غير نقل. وقرأ قوم: "اسل" بالنقل وهمزة الوصل، كأنهم لم يعتدوا بالحركة المنقولة كقولهم: "الحمر" بالهمز. وسيأتي لهذه المسائل مزيد بيان في مواضعها كما ستقف عليه إن شاء الله. و "بني" مفعول أول عند الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "كم آتيناهم" في "كم" وجهان، أحدهما أنها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل: نصبها على أنها مفعول ثان لآتيناهم على مذهب [ ص: 367 ] الجمهور، وأول على مذهب السهيلي، كما تقدم تقريره. وقيل: يجوز أن ينتصب بفعل مقدر يفسره الفعل بعدها تقديره: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدرنا ناصبها بعدها لأن الاستفهام له صدر الكلام ولا يعمل فيه ما قبله، قاله ابن عطية، يعني أنه عنده من باب الاشتغال. قال الشيخ: "وهذا غير جائز إن كان "من آية" تمييزا، لأن الفعل المفسر لم يعمل في ضمير "كم" ولا في سببها، وإذا لم يكن كذلك امتنع أن يكون من باب الاشتغال، إذ من شرط الاشتغال أن يعمل المفسر في ضمير الأول أو في سببه. ونظير ما أجازه أن تقول: "زيدا ضربت" ويكون من باب الاشتغال، وهذا ما لا يجيزه أحد. فإن قلنا إن مميزها محذوف، وأطلقت "كم" على القوم جاز ذلك لأن في جملة الاشتغال ضمير الأول، لأن التقدير: "كم من قوم آتيناهم" قلت: هذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشى على كون "من آية" تمييزا قد صرح به ابن عطية فإنه قال: "وقوله "من آية" هو على التقدير الأول مفعول ثان لآتيناهم، وعلى الثاني في موضع التمييز" يعني بالأول نصبها على الاشتغال، وبالثاني نصبها بما بعدها.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني من وجهي كم: أن تكون في محل رفع بالابتداء والجملة بعدها في محل رفع خبرا لها والعائد محذوف تقديره: كم آتيناهموها أو أتيناهم إياها، أجاز ذلك ابن عطية وأبو البقاء، واستضعفه الشيخ من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلا في ضرورة كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 368 ]

                                                                                                                                                                                                                                      915 - وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل

                                                                                                                                                                                                                                      أي: وخالد يحمده. وهذا نقل بعضهم، وأما ابن مالك فنقل أن المبتدأ إذا كان لفظ "كل" أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقا من البصريين والكوفيين، ومنه: ""وكل وعد الله الحسنى" " في قراءة نافع، وإذا كان المبتدأ غير ذلك فالكوفيون يمنعون ذلك إلا في السعة، والبصريون يجيزونه بضعف، ومنه: أفحكم الجاهلية يبغون" برفع "حكم". فقد حصل أن الذي أجازه ابن عطية ممنوع عند الكوفيين ضعيف عند البصريين.

                                                                                                                                                                                                                                      وهل "كم" هذه استفهامية أو خبرية؟ الظاهر الأول، وجوز الزمخشري فيها الوجهين، ومنعه الشيخ من حيث إن "كم" الخبرية مستقلة بنفسها غير متعلقة بالسؤال، فتكون مفلتة مما قبلها، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضا فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال تقديره: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم قال: كثيرا من الآيات التي آتيناهم، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      و "من آية" فيه وجهان، أحدهما: أنها مفعول ثان على القول بأن "كم" منصوبة على الاشتغال كما تقدم تحقيقه، ويكون مميز "كم" محذوفا، و "من" زائدة في المفعول; لأن الكلام غير موجب إذ هو استفهام. وهذا إذا قلنا إن "كم" استفهامية لا خبرية، إذ الكلام مع الخبرية إيجاب، و "من" لا تزاد في [ ص: 369 ] الواجب إلا على رأي الأخفش والكوفيين، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال الشيخ: "فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعد، لأن متعلق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: "كم من درهم أعطيته من رجل" على زيادة "من" في "رجل" لكان فيه نظر" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها تمييز، ويجوز دخول "من" على مميز "كم" استفهامية كانت أو خبرية مطلقا، أي: سواء وليها مميزها أم فصل بينهما بجملة أو ظرف أو جار ومجرور، على ما قرره النحاة. و "كم" وما في حيزها في محل نصب أو خفض، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنه يتعدى لاثنين: إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف جر: إما عن وإما الباء نحو: سألته عن كذا وبكذا، قال تعالى: "فاسأل به خبيرا"، وقد جمع بينهما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      916 - فأصبحن لا يسألنني عن بما به      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقد يحذف حرف الجر، فمن ثم جاز في محل "كم" النصب والخفض بحسب التقديرين و "كم" هنا معلقة للسؤال، والسؤال لا يعلق إلا بالاستفهام كهذه الآية، وقوله تعالى: "سلهم أيهم بذلك زعيم" وقوله: [ ص: 370 ]

                                                                                                                                                                                                                                      917 - يا أيها الراكب المزجي مطيته     سائل بني أسد ما هذه الصوت

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      918 - ... ... ... ...     واسأل بمصقلة البكري ما فعلا



                                                                                                                                                                                                                                      وإنما علق السؤال وإن لم يكن من أفعال القلوب، قالوا: لأنه سبب للعلم والعلم يعلق فكذلك سببه، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      919 - ومن أنتم إنا نسينا من أنتم     وريحكم من أي ريح الأعاصر

                                                                                                                                                                                                                                      فإجراؤهم سببه مجراه أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف النحويون في "كم": هل بسيطة أو مركبة من كاف التشبيه وما الاستفهامية حذفت ألفها لانجرارها، ثم سكنت ميمها، كما سكنت ميم "لم" من "لم فعلت كذا" في بعض اللغات، فركبتا تركيبا لازما؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبرية مرادا بها التكثير ولم يأت مميزها في القرآن إلا مجرورا بمن.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ومن يبدل نعمة الله"" من" شرطية في محل رفع بالابتداء. وقد تقدم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بد للتبديل من مفعولين: مبدل وبدل، ولم يذكر هنا إلا أحدهما وهو المبدل، وحذف البدل، وهو المفعول [ ص: 371 ] الثاني لفهم المعنى. وقد صرح به في قوله: "بدلوا نعمت الله كفرا" فكفرا هو المحذوف هنا. وكان قد تقدم عند قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا" أن "بدل" يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه وهو البدل وهو الذي يكون موجودا وإلى الآخر بحرف الجر وهو المبدل وهو الذي يكون متروكا، وقد يحذف حرف الجر لفهم المعنى فالتقدير هنا: "ومن يبدل بنعمته كفرا"، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدر حرف الجر داخلا على "كفرا" فيكون التقدير: "ومن يبدل بالكفر نعمة الله" لأنه لا يترتب عليه الوعيد في قوله: فإن الله شديد العقاب". وكذلك قوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" تقديره: بسيئاتهم حسنات، ولا يجوز تقديره: "سيئاتهم بحسنات" لأنه لا يترتب على قوله: "إلا من تاب".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "يبدل" مخففا، و "من" لابتداء الغاية. و "ما" مصدرية، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف لفهم المعنى أي: العقاب له، أو لأن "أل" نابت منابه عند الكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية