الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (177) قوله تعالى: ليس البر أن تولوا : قرأ الجمهور برفع "البر"، وحمزة وحفص عن عاصم بنصبه. فقراءة الجمهور على أنه اسم "ليس"، و "أن تولوا" خبرها في تأويل مصدر، أي: ليس البر توليتكم. ورجحت هذه القراءة من حيث إنه ولي الفعل مرفوعه قبل منصوبه. وأما قراءة حمزة وحفص فالبر خبر مقدم، و "أن تولوا" اسمها في تأويل مصدر. ورجحت هذه القراءة بأن المصدر المؤول أعرف من المحلى بالألف واللام، [ ص: 245 ] لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به، والأعرف ينبغي أن يجعل الاسم، وغير الأعرف الخبر. وتقديم خبر ليس على اسمها قليل حتى زعم منعه جماعة، منهم ابن درستويه قال: لأنها تشبه "ما" الحجازية، ولأنها حرف على قول جماعة، ولكنه محجوج بهذه القراءة المتواترة وبقول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      823 - سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:

                                                                                                                                                                                                                                      824 - أليس عظيما أن تلم ملمة ... وليس علينا في الخطوب معول

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مصحف أبي وعبد الله: "بأن تولوا" بزيادة الباء وهي واضحة، فإن الباء تزاد في خبر "ليس" كثيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "قبل" منصوب على الظرف المكاني بقوله "تولوا"، وحقيقة قولك: "زيد قبلك": أي في المكان الذي قبلك فيه، وقد يتسع فيه فيكون بمعنى "عند" نحو: "قبل زيد دين" أي: عنده دين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولكن البر من آمن" في هذه الآية خمسة أوجه، أحدها: أن "البر" اسم فاعل من بر يبر فهو بر، والأصل: برر بكسر الراء الأولى بزنة "فطن"، فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الراء إلى الباء بعد سلبها حركتها، [ ص: 246 ] فعلى هذه القراءة لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويل لأن البر من صفات الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخص البر من آمن. الثاني: أن في الكلام حذف مضاف من الأول تقديره: "ولكن ذا البر من آمن". الثالث: أن يكون الحذف من الثاني، أي: ولكن البر بر من آمن، وهذا تخريج سيبويه واختياره، وإنما اختاره لأن السابق إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: "ليس الكرم أن تبذل درهما ولكن الكرم بذل الآلاف" ولا يناسب "ولكن الكريم من يبذل الآلاف". الرابع: أن يطلق المصدر على الشخص مبالغة نحو: "رجل عدل". ويحكى عن المبرد: "لو كنت ممن يقرأ لقرأت: "ولكن البر" بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن "البر" اسم فاعل تقول: بر يبر فهو بار وبر، فتارة تأتي به على فاعل وتارة على فعل. الخامس: أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل نحو: "رجل عدل" أي عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه نحو: "أقائما وقد قعد الناس" في قول، وهذا رأي الكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                                      والأولى فيه ادعاء أنه محذوف من فاعل، وأن أصله بار، فجعل "برا" كـ "سر"، وأصله: سار، ورب أصله راب. وقد تقدم ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الفراء "من آمن" واقعا موقع "الإيمان" فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه، كأنه قال: "ولكن البر الإيمان بالله". قال: "والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد:

                                                                                                                                                                                                                                      825 - لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... ولكنما الفتيان كل فتى ندي

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 247 ] جعل نبات اللحية خبرا للفتيان، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع وابن عامر: "ولكن البر" هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع "البر"، والباقون بالتشديد والنصب، وهما واضحتان مما تقدم في قوله: "ولكن الشياطين كفروا"، وقرئ: "ولكن البار" بالألف وهي تقوي أن "البر" بالكسر المراد به اسم الفاعل لا المصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      ووحد "الكتاب" لفظا والمراد به الجمع، وحسن ذلك كونه مصدرا في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإن من آمن به فقد آمن بكل الكتب فإنه شاهد لها بالصحة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "على حبه" في محل نصب على الحال، العامل فيه "آتى"، أي: آتى المال حال محبته له واختياره إياه. والحب مصدر حببت لغة في أحببت كما تقدم، ويجوز أن يكون مصدر الرباعي على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر وهو الإحباب كقوله: "أنبتكم من الأرض نباتا".

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال. أظهرها: أنه يعود على المال لأنه أبلغ من غيره كما ستقف عليه. الثاني: أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله: "آتى" أي: على حب الإيتاء، وهذا بعيد من حيث [ ص: 248 ] المعنى. أما من حيث اللفظ: فإن عود الضمير على غير مذكور بل مدلول عليه بشيء خلاف الأصل. وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان لأن هواه يساعده على ذلك وقال زهير:

                                                                                                                                                                                                                                      826 - تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن يعود على الله تعالى. وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون المصدر مضافا للمفعول، وعلى هذا فالظاهر أن فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي. وقيل: هو ضمير المؤتون. أي: حبهم له واحتياجهم إليه، وليس بذاك. و "ذوي القربى" على هذه الأقوال الثلاثة منصوب بآتى فقط، لا بالمصدر لأنه قد استوفى مفعوله. الرابع: أن يعود على "من آمن"، وهو المؤتي للمال، فيكون المصدر على هذا مضافا للفاعل، وعلى هذا فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفا، أي: "حبه المال"، وأن يكون "ذوي القربى"، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية: "ويجيء قوله: "على حبه" اعتراضا بليغا في أثناء القول". قال الشيخ: "فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه فليس بجيد، فإن ذلك من خصوصيات الجملة التي لا محل لها، وهذا مفرد وله محل، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين، وهما "المال" و "ذوي" فيصح إلا أنه فيه إلباس".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ذوي" فيه وجهان، أحدهما - وهو الظاهر - أنه مفعول بآتى، وهل هو الأول و "المال" هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقدم للاهتمام، أو هو الثاني فلا تقديم ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني: أنه منصوب بـ "حبه" على أن الضمير يعود على "من آمن" كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 249 ] قوله: "واليتامى" ظاهره أنه منصوب عطفا على "ذوي". وقال بعضهم: "هو عطف على "القربى"، أي: آتى ذوي اليتامى، أي: أولياءهم، لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصح" ولا حاجة إلى هذا فإن الإيتاء يصدق وإن لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء، يقال: "أتيت السلطان الخراج" وإنما أعطيت أعوانه.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ابن السبيل" اسم جنس أو واحد أريد [به] الجمع، وسمي ابن السبيل - لملازمته إياها في السفر، أو لأنه تبرزه فكأنها ولدته.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وفي الرقاب" متعلق بآتى. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون ضمن "آتى" معنى فعل يتعدى لواحد، كأنه قال: وضع المال في الرقاب. والثاني: أن يكون مفعول "آتى" الثاني محذوفا، أي: آتى المال أصحاب الرقاب في فكها أو تخليصها، فإن المراد بهم المكاتبون أو الأسارى أو الأرقاء يشترون فيعتقون. وكل هذه أقوال قيل بها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وأقام الصلاة" عطف على صلة "من" وهي: آمن وآتى، وإنما قدم الإيمان لأنه رأس الأعمال الدينية، وثنى بإيتاء المال لأنه أجل شيء عند العرب وبه يتمدحون ويفتخرون بفك العاني وقرى الضيفان، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والموفون" في رفعه ثلاثة أوجه، أحدها: - ولم يذكر الزمخشري غيره - أنه عطف على "من آمن"، أي: ولكن البر المؤمنون [ ص: 250 ] والموفون. والثاني: أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الموفون. وعلى هذين الوجهين فنصب "الصابرين" على المدح بإضمار فعل، وهو في المعنى عطف على "من آمن"، ولكن لما تكررت الصفات خولف بين وجوه الإعراب. قال الفارسي: "وهو أبلغ لأن الكلام يصير على جمل متعددة، بخلاف اتفاق الإعراب فإنه يكون جملة واحدة، وليس فيها من المبالغة ما في الجمل المتعددة.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: لم لا يجوز على هذين الوجهين أن يكون معطوفا على "ذوي القربى" أي: وآتى المال الصابرين؟ قيل: لئلا يلزم من ذلك محذور وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصلة بأجنبي وهو الموفون. والثالث: أن يكون "الموفون" عطفا على الضمير المستتر في "آمن"، ولم يحتج إلى التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل لأن طول الكلام أغنى عن ذلك. وعلى هذا الوجه يجوز في "الصابرين" وجهان، أحدهما: النصب بإضمار فعل كما تقدم، والثاني: العطف على "ذوي القربى"، ولا يمنع من ذلك ما تقدم من الفصل بالأجنبي، لأن الموفين على هذا الوجه داخل في الصلة فهو بعضها لا أجنبي منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "إذا عاهدوا" "إذا" منصوب بالموفون، أي: الموفون وقت العهد من غير تأخير الوفاء عن وقته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن والأعمش ويعقوب: "والصابرون"، وحكى الزمخشري قراءة: "والموفين" و "الصابرين".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 251 ] قال الراغب: وإنما لم يقل: "وأوفى" كما قال "وأقام" لأمرين، أحدهما: اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن تعطف على الموصول دون الصلة لئلا تطول وتقبح. والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة وغير مستفاد إلا منها، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد وهو مما تقضي به العقول المجردة صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل ومن وجه جامعا للفضائل إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ غير إعرابه على هذا المقصد" وهذا كلام حسن طائل.

                                                                                                                                                                                                                                      و "حين البأس" منصوب بالصابرين، أي: الذين صبروا وقت الشدة.

                                                                                                                                                                                                                                      والبأساء والضراء فيهما قولان، أحدهما: - وهو المشهور - أنهما اسمان مشتقان من البؤس والضر، وألفهما للتأنيث، والثاني: أنهما وصفان قائمان مقام موصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال: بئس يبأس إذا افتقر. قال الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      827 - ولم يك في بؤس إذا بات ليلة ... يناغي غزالا ساجي الطرف أكحلا

                                                                                                                                                                                                                                      وأما البأس فشدة القتال خاصة، بؤس الرجل أي: شجع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أولئك الذين صدقوا" مبتدأ وخبر، وأتى بخبر "أولئك" الأولى موصولا بصلة وهي فعل ماض لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم واستقر، وأتى بخبر الثانية بموصول صلته اسم فاعل ليدل على الثبوت، وأنه ليس متجددا بل صار كالسجية لهم، وأيضا فلو أتى به فعلا ماضيا لما حسن وقوعه فاصلة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية