الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (106) قوله تعالى: ما ننسخ . . في "ما" قولان: أحدهما:- وهو الظاهر - أنها مفعول مقدم لننسخ، وهي شرطية جازمة له، والتقدير: أي شيء ننسخ، مثل قوله "أيا ما تدعوا". والثاني: أنها شرطية أيضا جازمة لننسخ، ولكنها واقعة موقع المصدر، و "من آية" هو المفعول به، والتقدير: أي نسخ ننسخ آية، قاله أبو البقاء وغيره، وقالوا: مجيء "ما" مصدرا جائز وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      671 - نعب الغراب فقلت: بين عاجل ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب



                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد هذا القول بعضهم بشيئين، أحدهما: أنه يلزم خلو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط وهو غير جائز، وقد تقدم تحقيق [ ص: 56 ] الكلام في ذلك عند قوله: "من كان عدوا لجبريل". والثاني: أن "من" لا تزاد في الموجب، والشرط موجب، وهذا فيه خلاف لبعض البصريين: أجاز زيادتها في الشرط لأنه يشبه النفي، ولكنه خلاف ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر: "ننسخ" بضم النون وكسر السين من أنسخ، قال أبو حاتم: "هو غلط" وهذه جرأة منه على عادته، وقال أبو علي: ليست لغة لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية لأن المعنى يجيء: ما نكتب من آية وما ننزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نجده منسوخا كما يقال: أحمدته وأبخلته، أي: وجدته كذلك ثم قال: "وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ"، فالهمزة عنده ليست للتعدية. وجعل الزمخشري وابن عطية الهمزة للتعدية، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف وفي معنى الإنساخ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه السلام، والإنساخ هو الأمر بنسخها، أي: الإعلام به، وجعل ابن عطية المفعول ضمير النبي عليه السلام، والإنساخ إباحة النسخ لنبيه، كأنه لما نسخها أباح له تركها، فسمى تلك الإباحة إنساخا.

                                                                                                                                                                                                                                      وخرج ابن عطية القراءة على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: "ويكون المعنى: ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ أو ما نؤخر فيه ونتركه فلا ننزله، أي ذلك فعلنا فإنما نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في "منها" و "بمثلها" [ ص: 57 ] عائدين على الضمير في "ننسأها" قال الشيخ: "وذهل عن القاعدة وهي أنه لا بد من ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط، و "ما" في قوله: "ما ننسخ" شرطية، وقوله "أو ننسأها" عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها من حيث اللفظ والمعنى، بل إنما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار "ما" الشرطية، التقدير: أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء، ولكن يبقى قوله: ما ننسخ من آية مفلتا من الجواب، إذ لا رابط يعود منه إليه فبطل هذا المعنى الذي قاله".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من آية" "من" للتبعيض، فهي متعلقة بمحذوف لأنها صفة لاسم الشرط، ويضعف جعلها حالا، والمعنى: أي شيء ننسخ من الآيات فـ "آية" مفرد وقع موقع الجمع، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب: "ما يفتح الله للناس من رحمة" "وما بكم من نعمة فمن الله"، وهذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط; وذلك أن فيه إبهاما من جهة عمومه، ألا ترى أنك لو قلت: "من يكرم أكرم" تناول النساء والرجال، فإذا قلت: "من الرجال" بينت وخصصت ما تناوله اسم الشرط.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء فيها وجهين آخرين، أحدهما: أنها في موضع نصب على التمييز، والمميز "ما" والتقدير: أي شيء ننسخ، قال: "ولا يحسن أن تقدر: أي آية ننسخ، لأنك لا تجمع بين "آية" وبين المميز بآية، لا تقول: أي آية ننسخ من آية، يعني أنك لو قدرت ذلك لاستغنيت عن التمييز. والثاني: [ ص: 58 ] أنها زائدة وآية حال ، والمعنى: أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا، وقد جاءت "آية" حالا في قوله: "هذه ناقة الله لكم آية" أي: "علامة" وهذا فاسد لأن الحال لا تجر بـ"من"، وقد تقدم أنها مفعول بها، و "من" زائدة على القول بجعل "ما" واقعة موقع المصدر، فهذه أربعة أوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أو ننسها" "أو" هنا للتقسيم، و "ننسها" مجزوم عطفا على فعل الشرط قبله. وفيها ثلاث عشرة قراءة: "ننسأها" بفتح حرف المضارعة وسكون النون وفتح السين مع الهمز، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير. الثانية: كذلك إلا أنه بغير همز، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال ابن عطية: "وأراه وهم". الثالثة: "تنسها" بفتح التاء التي للخطاب، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز، وهي قراءة الحسن، وتروى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعد بن أبي وقاص: "إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على ابن المسيب" وتلا: "سنقرئك فلا تنسى" "واذكر ربك إذا نسيت" يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه [ ص: 59 ] عليه السلام موجودة في كتاب الله فهذا مثله. الرابعة: كذلك إلا أنه بالهمز: الخامسة: كذلك إلا أنه بضم التاء وهي قراءة أبي حيوة. السادسة: كذلك إلا أنه بغير همز وهي قراءة سعيد بن المسيب. السابعة: "ننسها" بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز وهي قراءة باقي السبعة. الثامنة: كذلك إلا أنه بالهمز. التاسعة: ننسها بضم حرف المضارعة وفتح النون وكسر السين مشددة وهي قراءة الضحاك وأبي رجاء. العاشرة: "ننسك. بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين وكاف بعدها للخطاب. الحادية عشرة: كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية وتشديد السين مكسورة، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضا. الثانية عشرة: كذلك إلا أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف: "ننسكها" وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه. الثالثة عشرة: "ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها" وهي قراءة الأعمش، وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الهمز على اختلاف وجوهها فمعناها التأخير من قولهم: نسأ الله وأنسأ الله في أجلك أي: أخره، وبعته نسيئة أي متأخرا، وتقول العرب: نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسئا، وأنسأ الإبل: إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثر، فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال، أحدها: نؤخر نسخها ونزولها وهو قول عطاء. الثاني: نمحها لفظا وحكما وهو قول ابن [ ص: 60 ] زيد. الثالث: نمضها فلا ننسخها وهو قول أبي عبيد، وهو ضعيف لقوله: نأت بخير منها، لأن ما أمضي وأقر لا يقال فيه: نأت بخير منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضا ففيها احتمالان: أظهرهما: أنها من النسيان، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضد الذكر، وفي بعضها الترك. والثاني: أن أصله الهمز من النسء وهو التأخير، إلا أنه أبدل من الهمزة ألف فحينئذ تتحد القراءتان. ثم من قرأ من القراء: "ننساها" من الثلاثي فواضح. وأما من قرأ منهم من أفعل، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم: ننسكها، أي: نجعلك ناسيا لها، أو يكون المعنى: نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء أي أمرته بتركه، ونسيته تركته، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      672 - إن علي عقبة أقضيها     لست بناسيها ولا منسيها



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا تاركها ولا آمرا بتركها، وقد تكلم الزجاج في هذه القراءة فقال: "هذه القراءة لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفارسي وغيره: "ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها" وقد ضعف الزجاج أيضا أن تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر، وقال: "إن هذا لم يكن له عليه السلام ولا نسي قرآنا"، واحتج بقوله تعالى: "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" أي لم نفعل شيئا من ذلك. وأجاب الفارسي [ ص: 61 ] عنه بأن معناه لم نذهب بالجميع. وهذا نهاية ما وقعت عليه من كلام الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "نأت" هو جواب الشرط، وجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين، وهذا التركيب أفصح التراكيب، أعني: مجيئهما مضارعين. وقوله: "بخير منها" متعلق بنأت، وفي "خير" هنا قولان، الظاهر منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أن الآتي به إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل فخيريته بالنسبة إلى زيادة الثواب، وقوله: "أو مثلها" أي في التكليف والثواب، وهذا واضح. والثاني: أن "خيرا" هنا مصدر، وليس من التفضيل في شيء، وإنما هو خير من الخيور، كخير في قوله: "أن ينزل عليكم من خير من ربكم" و "من" لابتداء الغاية، والجار والمجرور صفة لقوله "خير" أي: خير صادر من جهتها، والمعنى عند هؤلاء: ما ننسخ من آية أو نؤخرها نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء. وهذا بعيد جدا لقوله بعد ذلك: "أو مثلها" فإنه لا يصح عطفه على "بخير" على هذا المعنى، اللهم إلا أن يقصد بالخير عدم التكليف، فيكون المعنى: نأت بخير من الخيور، وهو عدم التكليف أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء. وأما عطف "مثلها" على الضمير في "منها"، فلا يجوز إلا عند الكوفيين، لعدم إعادة الخافض، وقوله: "ما ننسخ" فيه التفات من غيبة إلى تكلم، ألا ترى أن قبله "والله يختص" "والله ذو الفضل".

                                                                                                                                                                                                                                      والنسخ لغة: الإزالة بغير بدل يعقبه، نسخت الريح الأثر والشمس الظل، أو نقل الشيء من غير إزالة [نحو:] نسخت الكتاب، وقال بعضهم: [ ص: 62 ] "والنسخ: الإزالة، وهو في اللغة على ضربين: ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحو: "نسخت الشمس الظل" فإنها أزالته وقامت مقامه، ومنه "ما ننسخ من آية"، والثاني: أن يزيله ولا يقوم شيء مقامه نحو: نسخت الريح الأثر ومنه: فينسخ الله ما يلقي الشيطان، النسيئة: التأخير كما تقدم، والإمضاء أيضا قال:


                                                                                                                                                                                                                                      673 - أمون كألواح الإران نسأتها     على لاحب كأنه ظهر برجد



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية