فأما الرفع فيجوز أن يكون رفعه على الاستئناف، وفيه احتمالان، أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: فهو يغفر. والثاني: أن هذه جملة فعلية من فعل وفاعل عطفت على ما قبلها. وأما الجزم فللعطف على الجزاء المجزوم.
وأما النصب فبإضمار "أن" وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل قبل ذلك تقديره: تكن محاسبة فغفران وعذاب. وقد روي قول النابغة بالأوجه الثلاثة وهو:
1144 - فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والبلد الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش
أجب الظهر ليس له سنام
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرف وخلاد: "يغفر" بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدل من الجواب كقوله تعالى: "ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب". وقال أبو الفتح: "وهي على البدل من "يحاسبكم" فهي تفسير للمحاسبة" قال الشيخ: "وليس بتفسير، بل هما مترتبان على المحاسبة". قال الزمخشري: "ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب لأن التفصيل أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال، كقولك: "ضربت زيدا رأسه" و "أحببت زيدا عقله"، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان".
قال الشيخ: "وفيه بعض مناقشة: أما الأول فقوله: "ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب" وليس العذاب والغفران تفصيلا لجملة الحساب، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئآته وحصرها، بحيث لا يشذ شيء منها، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة، فليست المحاسبة مفصلة بالغفران والعذاب. وأما ثانيا فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض [ ص: 689 ] من الكل وبدل الاشتمال: "وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان" أما بدل الاشتمال فهو يمكن، وقد جاء لأن الفعل يدل على الجنس وتحته أنواع يشتمل عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواعه، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزؤ، فلا يقال في الفعل له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل في حق الله تعالى، إذ الباري تعالى لا يتقسم ولا يتبعض.
قلت: ولا أدري ما المانع من كون المغفرة والعذاب تفسيرا أو تفصيلا للحساب، والحساب نتيجته ذلك، وعبارة الزمخشري هي بمعنى عبارة ابن جني. وأما قوله: "إن بدل البعض من الكل في الفعل متعذر، إذ لا يتحقق فيه تجزؤ" فليس بظاهر، لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه، فإن الجنس كل والنوع بعض. وأما قياسه على الباري تعالى فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشري ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: "وقرأ الأعمش: "يغفر" بغير فاء مجزوما على البدل من "يحاسبكم" كقوله:
1145 - متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
[ ص: 690 ] وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام والباقون بإظهارها. وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلاف عنه، وورش عن نافع، والباقون بالإدغام. وقد طعن قوم على قراءة أبي عمرو لأن إدغام الراء في اللام عندهم ضعيف.
قال الزمخشري: "فإن قلت: "كيف يقرأ الجازم" ؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في هذه الروايات قلة ضبط الرواة، وسبب قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو" قلت: وهذا من أبي القاسم غير مرضي، إذ القراء معنيون بهذا الشأن، لأنهم تلقوا عن شيوخهم الحرف بعد الحرف، فكيف يقل ضبطهم؟ وهو أمر يدرك بالحس السمعي، والمانع من إدغام الراء في اللام والنون هو تكرير الراء وقوتها، والأقوى لا يدغم في الأضعف، وهذا مذهب البصريين: الخليل وسيبويه ومن تبعهما، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأس البصريين أبو عمرو، وليس قوله: "إن هذه الرواية غلط عليه" بمسلم. ثم ذكر الشيخ نقولا عن القراء كثيرة هي منصوصة في كتبهم، فلم أر لذكرها هنا فائدة، فإن مجموعها ملخص فيما ذكرته، وكيف يقال إن الراوي ذلك عن [ ص: 691 ] أبي عمرو مخطئ مرتين، ومن جملة رواته اليزيدي إمام النحو واللغة، وكان ينازع الكسائي رئاسته، ومحله مشهور بين أهل هذا الشأن.


