الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ثم قال الناظم: [ ص: 34 ]


      باب اتفاقهم والاضطراب في الحذف من فاتحة الكتاب

      أي: هذا باب بيان اتفاق كتاب المصاحف واختلافهم في حذف الألفات من كلمات فاتحة الكتاب، والباب لغة: المدخل الموصل إلى الشيء، واصطلاحا اسم لجملة من المسائل المشتركة في أمر يشملها تحته فصول غالبا، والفصل لغة: الحاجز بين الشيئين، واصطلاحا اسم جملة من مسائل الفن مندرج تحت باب أو كتاب، غالبا. والضمير في قوله اتفاقهم يعود على كتاب المصاحف المتقدم ذكرهم في قوله: "ثبت عن ذوي النهى والعلم"، ولا يصح عوده على الرواة الناقلين عن المصاحف; لأنه لم يتقدم ذكرهم لا تصريحا ولا تلويحا ولا على الشيوخ الذين عينهم الناظم لعدم الاطراد، فإن الناظم كثيرا ما يأتي بذكر الخلاف مع اتفاق الناقلين له; ولأن أكثر الكنايات وشبهها الآتية في النظم الأنسب بها كتاب المصاحف لا شيوخ النقل؛ كقوله: "لا خلاف بين الأمة في الحذف".

      وقوله: وبعضهم أثبت فيها الأولا.

      وقوله: وللجميع السيئات جاء بألف.

      والتعبير باتفاق كتاب المصاحف واختلافهم في معنى تعبير الشيوخ باتفاق المصاحف واختلافها، ولكن لما وقع في عبارة الناظم ضمير العقلاء لزم حمله على كتابها، وأحدهما قريب من الآخر، وأل في قوله: والاضطراب عوض عن ضمير كتاب المصاحف، والاضطراب: الاختلاف.

      وقوله: في الحذف تنازعه كل من الاتفاق والاضطراب، ومعنى الحذف: الإسقاط والإزالة، وأل فيه للعهد والمعهود.

      قوله: وحذفه جئت به مرتبا، والذي يحذف غالبا في المصاحف من حروف الهجاء ثلاثة: الألف، والواو، والياء المديتان، وهي التي تزاد أيضا. وإنما اختصت هذه الأحرف بالحذف غالبا لكثرة دورها، وبقاء ما يدل عليها عند حذفها، وهو الحركات التي نشأت هذه الأحرف عنها، وإنما اقتصر في الترجمة على الحذف; لأنه هو المخالف لقاعدة الرسم القياسي، وأما الإثبات فلا حاجة إلى التنصيص عليه لجريانه على القياس، ولذا لم يترجم له، ولم يتعرض لشيء منه استقلالا.

      "واعلم" أن البسملة إن كانت من الفاتحة ومن كل سورة أو من الفاتحة فقط كما قيل بكل منهما [ ص: 35 ] دخلت في ترجمة الفاتحة ولا إشكال، وإن لم تكن من الفاتحة ولا من غيرها كما هو قول مالك وجماعة دخلت فيها أيضا لملازمتها إياها لفظا وخطا.

      تنبيهان:

      الأول: الحذف الواقع في المصاحف ثلاثة أقسام، حذف إشارة، وحذف اختصار، وحذف اقتصار.

      أما حذف الإشارة فهو ما يكون موافقا لبعض القراءات نحو: وإذ واعدنا فإن أبا عمرو البصري قرأ بحذف الألف من اللفظ، والباقون بإثباتها فحذفت الألف في الخط إشارة لقراءة الحذف، ولا يشترط في كونه حذف إشارة أن تكون القراءة المشار إليها متواترة، بل ولو شاذة؛ لاحتمال أن تكون غير شاذة حين كتب المصاحف، وهذا القسم يعلم مما سنذكره في الشرح من قراءة الكلمة بدون ألف.

      وأما حذف الاختصار أي: التقليل؛ فهو ما لا يختص بكلمة دون مماثلها فيصدق بما تكرر من الكلمات، وما لم يتكرر منها؛ وذلك كحذف ألف جموع السلامة: كالعالمين وذريات.

      وأما حذف الاقتصار فهو ما اختص بكلمة أو كلمات دون نظائرها: "كالميعاد في الأنفال، و: "الكافر" في الرعد، وربما جامع القسم الأول كلا من القسمين الأخيرين، "كواعدنا"، وفيها "سراجا"، وربما اجتمع القسمان الأخيران؛ وذلك حيث تتفق المصاحف على حذف كلمة، وتختلف في نظائرها فيكون اختصارا بالنسبة إلى حذف النظير في بعض المصاحف، واقتصارا بالنسبة إلى إثباته، وهذا كله اصطلاح لهم، وإلا فلا يبعد أن يشمل ذلك كله اسم الاختصار.

      التنبيه الثاني: للحذف والإثبات مرجحات؛ فينفرد الإثبات بالترجيح، لكن حيث لا مرجح للحذف، وينفرد الحذف بترجيحه إلى القراءة بحذفه، لكن حيث لم ينص على الإثبات أو راجحيته، ويشتركان معا في الترجيح بالنص على رجحان أحدهما، وينص أحد الشيخين على أحد الطرفين مع سكوت الآخر الذي قد يقتضي خلافه، وبالحمل على النظائر، وعلى المجاور، وباقتصار أحد الشيوخ على أحدهما، وحكاية الآخر الخلاف، وبنص شيخ على حكم عين الكلمة عند اقتضاء ضابط غيره خلافه، وبكون النقل عن نافع عند نقل غيره خلافه، وبكونه في المصاحف المدنية عند مخالفة غيرها، [ ص: 36 ] وبكونه في أكثر المصاحف.

      ثم قد يحصل لكل طرف مرجح فأكثر مع التساوي في عدد المرجحات، أو التفاوت، وقد يكون بعض المرجحات عند التعارض أقوى من بعض فيتسع في ذلك مجال النظر، وكثير من هذه المرجحات يجري أيضا في غير باب الحذف ومقابله مما يذكر بعده، ومن هذه المرجحات يعلم وجه كثير مما جرى به العمل، وسنبين إن شاء الله ما جرى به العمل عندنا بتونس في جميع ما ذكر فيه الناظم الخلاف أو التخيير، وأما ما ذكر فيه الناظم اتفاق الشيوخ، أو الشيخين على نقله من غير ذلك خلاف فيه بين المصاحف، فلا توقف في العمل به، ولذا لا ننص عليه.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية