الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            4051 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، حدثني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قال: زهرة الدنيا "، فقال له رجل: ما يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه ينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، قال: "أين السائل؟" قال: أنا، قال أبو سعيد : لقد حمدناه حين طلع لذلك، قال: "لا يأتي الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا، أو يلم، ألا إن آكلة الخضرة تأكل حتى إذا اشتدت خاصرتاها، استقبلت الشمس، فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم ، عن أبي الطاهر ، عن [ ص: 254 ] عبد الله بن وهب ، عن مالك .

                                                                            قوله: "خضرة" فالخضرة: الغضة الحسنة يريد أن صورة الدنيا ومتاعها حسنة المنظر تعجب الناظر، وكل شيء غض طري فهو خضرة، وأصله من خضرة الشجر، ومنه قيل للرجل إذا مات شابا غضا: قد اختضر، ويقال: خذ هذا الشيء خضرا مضرا، فالخضر: الحسن الغض، والمضر إتباع، ويقال: خذه بلا ثمن، وقوله سبحانه وتعالى: ( فأخرجنا منه خضرا ) أي: ورقا أخضر، يقال: أخضر خضر، كما يقال: أعور عور، وكل شيء ناعم، فهو خضر.

                                                                            وقوله: "يقتل حبطا"، قال الأصمعي : الحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطنها وتمرض، يقال منه: حبطت تحبط حبطا، قال أبو عبيد : قوله: "أو يلم" يعني يقرب من ذلك.

                                                                            الأزهري : فيه مثلان ضرب: أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، وضرب الآخر: للمقتصد في أخذها والانتفاع بها.

                                                                            فأما قوله: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا" فهو مثل للمفرط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب، فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخ بطونها لما قد جاوزت حد الاحتمال، فينشق أمعاؤها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير [ ص: 255 ] حلها، ويمنع ذا الحق حقه، يهلك في الآخرة بدخول النار.

                                                                            وأما مثل المقتصد، فقوله صلى الله عليه وسلم : "ألا إن آكلة الخضرة" وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول التي ينبتها الربيع فتستكثر منها الماشية، ولكنها من كلأ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول شيئا فشيئا من غير استكثار، فضرب مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها.

                                                                            وقوله: "استقبلت الشمس فاجترت وثلطت" أراد أنها إذا شبعت بركت مستقبلة الشمس تجتر وتستمرئ بذلك ما أكلت، فإذا ثلطت زال عنها الحبط، وإنما تحبط الماشية إذا كانت لا تثلط ولا تبول، قال الخطابي : وجعل ما يكون من ثلطها وبولها مثلا لإخراج ما يكسبه من المال في الحقوق.

                                                                            وفيه الحض على الاقتصاد في المال، والحث على الصدقة، وترك الإمساك للادخار.

                                                                            قال الأزهري ، في قوله: "ألا إن آكلة الخضرة"، قال الخضر ههنا: ضرب من الجنبة، واحدها خضرة والجنبة من الكلأ: ما له أصل غامض في الأرض كالنصي والصليان.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية