الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            325 - أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك، فإذا خلفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل".

                                                                            ورواه قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا أخبره، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدم، فذكر معناه، وقال: "فإذا خلفت ذلك، وحضرت الصلاة فلتغتسل" بمعناه.

                                                                            وسليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث أخو عطاء بن يسار. [ ص: 143 ] .

                                                                            قال الإمام: إذا استحيضت المرأة فجاوز دمها أكثر الحيض، فهي إن كانت مميزة بأن كانت ترى زمانا دما أسود ثخينا قويا، ثم ترى رقيقا مشرقا، فزمان الدم القوي حيضها تدع فيه الصلاة والصوم، فإذا تغير إلى الرقة والإشراق، فهو زمان الاستحاضة، عليها أن تغتسل، وتصلي، وتصوم، ثم بعده تتوضأ لكل صلاة فريضة إلى أن يأتي زمان الدم القوي فتدع الصلاة، وهذا معنى حديث فاطمة بنت أبي حبيش، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول لها: "فإذا أقبلت الحيضة، فاتركي الصلاة" إلا وهي تعرف إقبالها وإدبارها.

                                                                            وقد روى ابن شهاب، عن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا كان دم الحيضة، فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة".

                                                                            وقال مكحول: النساء لا يخفى عليهن الحيضة إن دمها أسود غليظ، فإذا ذهب ذلك، وصارت صفرة رقيقة، فإنها مستحاضة، فلتغتسل ولتصل.

                                                                            وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق أنها تعمل بالتمييز، ولا تنظر إلى عادتها، لأن في العمل بالتمييز اعتبارا لشيء [ ص: 144 ] بذاته، وبخاص صفاته، وهو نفس الدم، فكان أولى من اعتبار زمانه.

                                                                            قال الإمام: فإنها تعمل بالتمييز بثلاث شرائط، أحدها: أن لا ينتقص الدم القوي عن أقل الحيض، والثاني: أن لا يزيد على أكثر الحيض، والثالث: أن لا ينتقص الدم الضعيف المتخلل بين الدمين القويين عن أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوما.

                                                                            فإذا تخلف شرط من هذه الشرائط، بطل العمل بالتمييز، وهي بمنزلة مستحاضة ترى الدم على لون واحد.

                                                                            وسبيل هذه أن تراعي عادتها في الطهر والحيض في سالف أيامها، فبقدر عادتها في الحيض من كل شهر تدع الصلاة والصوم، ثم تغتسل، وبعده تتوضأ لكل صلاة فريضة إلى انقضاء قدر عادتها في الطهر، وهذا معنى حديث أم سلمة: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها".

                                                                            وإن كان مبتدأة استحيضت أول ما رأت الدم، فإن الشافعي يردها إلى أقل الحيض وهو يوم وليلة، فتدع الصلاة ذلك القدر أخذا باليقين، ثم تغتسل وتصلي سائر الشهر، ومنهم من يردها إلى غالب عادات من هي في مثل سنها من نساء عشيرتها، وهو قول سفيان.

                                                                            وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إنما ذلك عرق" قال الخطابي: يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العروق، واتصل الدم، وليس بدم الحيض الذي يقذفه الرحم لميقات معلوم.

                                                                            قوله: "فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" دليل على أنها لا تتربص شيئا بعد ذهاب زمان حيضها. [ ص: 145 ] .

                                                                            وقال مالك: "المستحاضة تتربص بعد زمان حيضها ثلاثة أيام، إلا أن يزيد الدم على خمسة عشر، فلا تتربص الزيادة على خمسة عشر".

                                                                            قال الحسن: "تمسك عن الصلاة بعد أيام حيضها يوما أو يومين، ثم هي بعد ذلك مستحاضة".

                                                                            وقوله في حديث أم سلمة: "ثم لتستثفر بثوب"، فالاستثفار أن تشد ثوبا تحتجز به على موضع الدم ليمنع السيلان، ومنه ثفر الدابة يشد تحت ذنبها، فعلى المستحاضة إذا أرادت الصلاة أن تعالج نفسها على قدر الإمكان بما يسد المسلك، ويرد الدم من قطن ونحوه، فإن غلب الدم فقطر، أو سال بعد المعالجة بالاستثفار والشد على قدر الإمكان، تصح صلاتها، ولا إعادة عليها، وكذلك حكم سلس البول.

                                                                            روي عن عائشة، قالت: "اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي".

                                                                            ويجوز للمستحاضة الاعتكاف في المسجد، والطواف، وقراءة القرآن، ويجوز للزوج غشيانها، كما تجب عليها الصلاة والصوم، هذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن علي، وابن عباس، وقاله سعيد بن جبير، [ ص: 146 ] وسعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، قالوا في المستحاضة: "تصلي وتصوم رمضان، ويغشاها زوجها".

                                                                            وروي عن عائشة، أنها قالت: "المستحاضة لا يأتيها زوجها".

                                                                            وقال إبراهيم: المستحاضة لا يأتيها زوجها، ولا تصوم، ولا تمس المصحف، إنما رخص لها في الصلاة.

                                                                            قال الإمام رضي الله عنه: وعلى المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة فريضة، قالت عائشة في المستحاضة: "تقعد أيام أقرائها، ثم تغتسل غسلا واحدا، وتتوضأ لكل صلاة".

                                                                            قال الإمام: ولا يجوز لها أن تجمع بين صلاتي فرض، ولا بين طوافي فرض بوضوء واحد، ويجوز أن تصلي فريضة وما شاءت من النوافل، وأن تحمل المصحف، وكذلك سلس البول.

                                                                            وجوز أصحاب الرأي لها أن تجمع بين فرائض بوضوء واحد في وقت واحد.

                                                                            وقال ربيعة: لها أن تصلي ما لم يصبها حدث غير الدم. [ ص: 147 ] .

                                                                            فأما المستحاضة إذا كانت قد نسيت عادتها، لا تعرف وقتها، ولا عددها، يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وتصوم جميع رمضان، ثم تقضي، ويجتنبها زوجها أبدا، فقد روي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بالغسل لكل صلاة".

                                                                            قال الليث بن سعد: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي. [ ص: 148 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية