الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب قبلة من غاب عن مكة.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) .

                                                                            446 - أخبرنا أبو عثمان الضبي، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، نا أبو العباس المحبوبي، نا أبو عيسى الترمذي، نا الحسن بن بكر المروزي، نا المعلى بن منصور، نا عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".

                                                                            قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وإنما قيل: عبد الله بن جعفر المخرمي، لأنه ولد المسور بن مخرمة [ ص: 328 ] وقد روي عن غير واحد من الصحابة "ما بين المشرق والمغرب قبلة"، منهم: عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وقال ابن المبارك: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" هذا لأهل المشرق، واختار ابن المبارك التياسر لأهل مرو.

                                                                            قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة.

                                                                            قلت: أراد المشرق والمغرب: مشرق الشتاء، ومغرب الصيف، لأن المشارق والمغارب كثيرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) .

                                                                            فأول المشارق مشرق الصيف، وهو مطلع الشمس في أطول يوم من السنة، وذلك قريب من مطلع السماك الرامح يرتفع عنه في الشمال قليلا، وآخر المشارق مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في [ ص: 329 ] أقصر يوم من السنة، وهو قريب من مطلع قلب العقرب ينحدر عنه في الجنوب قليلا.

                                                                            وأول المغارب مغرب الصيف، وهو مغيب القرص عند موضع غروب السماك الرامح، وآخر المغارب مغرب الشتاء، وهو مغيب القرص عند مغرب قلب العقرب، على نحو ما ذكرت مطلعه.

                                                                            فمن جعل من أهل المشرق أول المغارب عن يمينه، وآخر المشارق عن يساره، كان مستقبلا للقبلة، ومن وقف من بين أول المشارق وآخر المغارب كان مستقبلا للشام، وتكون عين الشمس في أطول يوم من السنة على نقرة قفاك إذا استقبلت القبلة، ويقع ظلك إلى القبلة، ويكون عند الزوال قريبا من ناصيتك، وعند الغروب على يمينك، وفي أقصر يوم من السنة تكون عند الطلوع على يسارك، وعند الزوال على عينك اليسرى، وعند الغروب على حاجبك الأيمن، وإذا استوى الليل والنهار في الربيع، أو الخريف، يكون وقت الزوال على مؤخر عينك اليسرى، وعند الغروب خارجة عن حاجبك اليمنى، وهذا لأهل المشرق خاصة.

                                                                            وأقوى دليل على القبلة لأهل هذه الناحية القطب الشمالي، وهو نجم صغير في بنات النعش الصغرى بين الفرقدين والجدي، يدور حول بنات النعش الصغرى والكبرى، فإذا استقبلت القبلة في نواحي الشرق، كان القطب خلف أذنك اليمنى، وإذا استدبرت، كان على مؤخر عينك اليسرى.

                                                                            ومن الدلائل أيضا النسران إذا حلقا في وسط السماء تكون القبلة بينهما، ينبغي أن يجعل المصلي في تلك الحالة النسر الواقع عن يمينه، والنسر الطائر عن يساره. [ ص: 330 ] .

                                                                            ومنها العيوق، وهو كوكب مضيء يطلع قبل الثريا بقليل من جانب الشمال، فيكون وقت طلوعه في نقرة قفا المصلي.

                                                                            وكذا رأس الناقة، ويقال له: الكف الخضيب، يكون طلوعه قبل العيوق في نقرة قفا المصلي، والشعرى العبور، وهو كوكب مضيء أزهر، يكون طلوعه على يسار المصلي.

                                                                            قلت: والتوجه إلى عين الكعبة واجب لمن كان بمكة، أما من غاب عنها، فإن كان في بلد أو قرية اتفق أهلها المسلمون على جهة ليس له أن يجتهد في الجهة فيها، بل عليه أن يتوجه إلى الجهة التي اتفقوا عليها، وله أن يجتهد في الانحراف يمنة أو يسرة.

                                                                            وإن كان في مفازة، أو بلاد الشرك، فاشتبهت القبلة عليه، يجب أن يجتهد، وهو أن يطلب القبلة بنوع من الدلائل، ويصلي إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده، ولا إعادة عليه، قال الله سبحانه وتعالى: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

                                                                            حكى المزني، عن الشافعي، أنه قال في هذه الآية: فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه، والله أعلم.

                                                                            وقال مجاهد: أي: قبلة الله.

                                                                            وقيل في قوله: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" في حق المسافر إذا التبس عليه الأمر.

                                                                            والمطلوب بالاجتهاد عين القبلة عند الشافعي، وقال الثوري، وأبو حنيفة: جهتها.

                                                                            وحكي عن ابن عباس، أنه قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة أهل المشرق والمغرب"، وهو قول مالك رضي الله عنه. [ ص: 331 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية