الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الجمع بين الصلاتين في الحضر

                                                                                                                                                                              ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين" فخبر أنه صلى به الصلوات في مواقيتها وهو مقيم إذ ذاك بمكة ، ثم ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه شتى أنه صلى بعد أن هاجر إلى المدينة الصلوات في مواقيتها، وقد ذكرت الأخبار في ذلك في مواضعها، وثبت عنه أنه جمع بالمدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر.

                                                                                                                                                                              فاختلف أهل العلم في الجمع بين الصلاتين في الحضر وفي الحال [ ص: 134 ] التي يجوز أن يجمع بينهما في الحضر، فقالت طائفة: يجمع بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، ولا يجمع بين الظهر والعصر في حال المطر، هذا قول مالك، قال مالك: ويجمع بينهما وإن لم يكن مطر، إذا كان طينا وظلمة.

                                                                                                                                                                              وكان أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه يريان الجمع بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، وممن رأى أن يجمع بين المغرب والعشاء في حال المطر عبد الله بن عمر بن الخطاب.

                                                                                                                                                                              1154 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: نا عبد الله، عن سفيان، عن عبيد الله ومحمد بن عجلان، عن نافع ، عن ابن عمر قال: "إذا كانت ليلة مطيرة كانت أمراءهم يصلون المغرب ويصلون العشاء قبل أن يغيب الشفق ويصلي معهم ابن عمر ، لا يعيب ذلك".

                                                                                                                                                                              وفعل ذلك أبان بن عثمان ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، ومروان بن الحكم، وعمر بن عبد العزيز.

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في [ ص: 135 ] حال المطر، إذا جمع بينهما والمطر قائم، ولا يجمع بين الصلاتين إلا في حال المطر، هكذا قال الشافعي ، وأبو ثور.

                                                                                                                                                                              وقال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي عمن جمع بين الصلاتين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، فقال: أهل المدينة يجمعون بينهما، ولم يزل من قبلنا يصلون كل صلاة في وقتها، قال: وسألت الليث بن سعد ، وسعيد بن عبد العزيز فقالا مثل ذلك، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الجمع بين الصلاتين في حال الريح والظلمة، وكان مالك يرى أن يجمع بينهما في حال الطين والظلمة.

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الجمع بين الصلاتين في الحضر مباح وإن لم تكن علة، قال: لأن الأخبار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بينهما في المطر، ولو كان ذلك في حال المطر لأدي إلينا ذلك، كما أدي إلينا جمعه بين الصلاتين بل قد ثبت عن ابن عباس الراوي لحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر لما سئل: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته، ثم قد روينا مع ذلك عن ابن عباس [نفي] العلة التي توهمها بعض الناس.

                                                                                                                                                                              1155 - حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: نا ابن فضيل ، قال: نا [ ص: 136 ] وكيع ، قال نا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر"، قلت لابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال: لكي لا يحرج أمته.

                                                                                                                                                                              1156 - حدثنا علي بن الحسن ، قال [أنا] عبد الله، عن سفيان، عن أبي الزبير ، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس ، قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر ولا خوف"، قال: قلت لابن عباس : ولم تراه فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: فإن تكلم متكلم في حديث حبيب وقال: لا يصح - يعني المطر - قيل: قد ثبت من حديث أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله: لما قيل له: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس [حين سئل] عن السبب الذي جمع بينهما فلما لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته. دل على أن جمعه كان في غير حال المطر، وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره بشك مالك.

                                                                                                                                                                              فإن قال قائل: فإن ابن عمر (وغيره) [ممن] ذكرنا قد جمعوا في حال المطر، قيل: إذا ثبتت الرخصة في الجمع بين الصلاتين، [ ص: 137 ] جمع بينهما للمطر وللريح والظلمة ولغير ذلك من الأعراض وسائر العلل، وأحق الناس بأن يقبل ما قاله ابن عباس بغير شك: من جعل قول ابن عباس لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يقبض، فقال ابن عباس : وأحسب كل شيء مثله. حجة بنى عليها المسائل، فمن استعمل شك ابن عباس وبنى عليه المسائل، وامتنع أن يقبل يقينه لما خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يحرج أمته. بعيد عن الإنصاف.

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة (أو شيء) ما لم يتخذه عادة، وقد ذكرت في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب (كلاما) في هذا الباب، تركت ذكره في هذا الموضع للاختصار.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية