الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم

                                                                                                                                                                              في التغليس بصلاة الفجر والإسفار بها

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في التغليس بصلاة الفجر والإسفار بها، فقالت طائفة: التغليس بها أفضل، قال أنس بن مالك : صليت خلف أبي بكر الصديق فاستفتح بسورة البقرة فقرأها في ركعتين. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى : أن صل الصبح والنجوم بادية، وكتب إليه [ ص: 71 ] أن صل الفجر بسواد أو بغلس، وأطل القراءة. وذكر عمرو بن ميمون : أن عمر بن الخطاب كان يصلي الفجر، ولو كان بيني وبين ابني ثلاثة أذرع ما عرفته، وقال عمرو بن دينار : كنا نصلي مع ابن الزبير بغلس. وقال ابن الزبير : كنا نصلي مع عمر الفجر فينصرف أحدنا وما يعرف صاحبه.

                                                                                                                                                                              وروينا عن علي بن أبي طالب أنه أكل وهو يريد الصوم فلما فرغ من طعامه قال لابن التياح: أقم الصلاة.

                                                                                                                                                                              وروي عن ابن مسعود أنه كان يغلس بالصبح، وكان أبو موسى الأشعري يصلي الصبح بسواد. وقال أبو هريرة : صل الصبح بغلس. وصلى ابن عمر صلاة الفجر بغلس.

                                                                                                                                                                              1041 - حدثنا علي بن عبد العزيز قال: نا القعنبي، عن مالك، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : "أن صل الصبح والنجوم بادية، واقرأ فيها بسورتين طويلتين من المفصل".

                                                                                                                                                                              1042 - حدثنا إسحاق، قال: أنا عبد الرزاق ، قال: أنا معمر ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، قال: صليت خلف أبي بكر ، فاستفتح بسورة البقرة فقرأها في ركعتين، فقام عمر حين فرغ فقال: " يغفر الله لك! لقد كادت الشمس أن تطلع قبل أن تسلم، قال: لو طلعت لألفتنا غير غافلين ". [ ص: 72 ]

                                                                                                                                                                              1043 - حدثنا علي، نا عارم، قال: نا حماد بن زيد ، عن أيوب، عن محمد بن سيرين ، عن المهاجر قال: كتب عمر إلى أبي موسى "أن صل الفجر بسواد - أو بغلس - وأطل القراءة".

                                                                                                                                                                              1044 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: نا عبد الله، عن سفيان، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عمرو بن ميمون ، قال: كان عمر بن الخطاب يصلي الفجر، ولو كان بيني وبين ابني ثلاثة أذرع ما عرفته.

                                                                                                                                                                              1045 - حدثنا يحيى بن محمد، قال: نا مسدد ، عن سفيان، عن عمرو بن دينار ، قال: "كنا نصلي مع ابن الزبير بغلس، ثم نأتي جياد فنقضي حاجتنا ثم نرجع" قال ابن الزبير : كنا نصلي مع عمر الفجر فينصرف أحدنا ولا يعرف صاحبه.



                                                                                                                                                                              1046 - أخبرنا حاتم، أن الحميدي ، حدثهم، قال: نا سفيان، قال: ثنا شبيب بن غرقدة، أنه سمع [حبان] بن الحارث، يقول: " أتيت علي بن أبي طالب وهو معسكر بدير أبي موسى ، فوجدته يطعم فقال: ادن فكل، قلت: إني أريد الصوم، قال: وأنا أريد الصوم، فلما فرغ من طعامه [ ص: 73 ] قال لابن التياح: أقم الصلاة ".

                                                                                                                                                                              1047 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال: أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع ابنا لعبد الله بن مسعود يقول: "كان ابن مسعود يغلس بالصبح كما يغلس بها ابن الزبير ".

                                                                                                                                                                              1048 - إبراهيم بن عبد الله، قال: أخبرنا روح، قال: نا حبيب بن شهاب، قال: سمعت أبي يقول: "كان أبو موسى الأشعري يصلي الصبح بسواد".

                                                                                                                                                                              1049 - حدثنا علي، قال: نا القعنبي، عن مالك، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن رافع ، مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل أبا هريرة عن وقت الصلاة؟ فقال: "صل الصبح بغلس".

                                                                                                                                                                              1050 - حدثنا علان بن المغيرة، قال: نا عمرو بن خالد، قال: نا زهير ، قال: نا أبو إسحاق ، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: "صلى عبد الله بن عمر صلاة الفجر بغلس". [ ص: 74 ]

                                                                                                                                                                              1051 - وحدثونا عن أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال: نا ابن مهدي ، قال: نا حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن إياس الحنفي، عن أبيه، قال: "كان عثمان بن عفان يصلي الفجر في نعليه، وينصرف وما يعرف بعضنا بعضا".

                                                                                                                                                                              وكان عطاء يقول: يصلى الصبح حين يفجر الفجر الآخر. وروي [أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أن غلس بالفجر. وروي أن عثمان كان يصلي الفجر وينصرف وما يعرف بعضنا بعضا.

                                                                                                                                                                              وممن مذهبه أن يصلى الصبح بغلس مالك بن أنس ، والشافعي ، وأحمد، وإسحاق ، وأبو ثور.

                                                                                                                                                                              واستحبت طائفة الإسفار بالفجر وممن كان هذا مذهبه سفيان الثوري ، وأصحاب الرأي، ورووا عن علي أنه قال لقنبر: يا قنبر أسفر، يا قنبر أسفر - يعني بصلاة الغداة - . وروي عن ابن مسعود أنه كان يسفر بصلاة الغداة، وروي معنى ذلك عن ابن الزبير ، وسويد بن [ ص: 75 ] غفلة، وابن سيرين، والنخعي.

                                                                                                                                                                              1052 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق ، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين ، عن خرشة بن الحر قال: "كان عمر بن الخطاب يغلس بصلاة الصبح، ويسفر، ويصليها بين ذلك".

                                                                                                                                                                              1053 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: نا عبد الله، عن سفيان، عن سعد بن عبيد الطائي، عن علي بن ربيعة ، قال: سمعت عليا، يقول لقنبر: "يا قنبر أسفر أسفر - يعني بصلاة الغداة".

                                                                                                                                                                              1054 - علي بن الحسن ، قال: نا عبد الله، عن سفيان، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال: "كان ابن مسعود يسفر بصلاة الغداة".

                                                                                                                                                                              1055 - وحدثونا عن الحسن بن علي ، قال: أنا ابن المبارك ، قال: أنا الأوزاعي ، عن نهيك ابن [يريم] ، عن مغيث بن سمي ، أنه سمع ابن عمر ، [ ص: 76 ] يقول: "لما قتل عمر أسفر بها عثمان". قال ابن مغيث: "وكان ابن الزبير يسفر بصلاة الفجر".

                                                                                                                                                                              1056 - ومن حديث بندار ، قال: نا عبد الرحمن، قال: نا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، قال: صلى معاوية بغلس، فقال أبو الدرداء : "أسفروا بهذه الصلاة فهو أخف عليكم".

                                                                                                                                                                              واحتج بعض أهل الكوفة بحديث رافع بن خديج .

                                                                                                                                                                              1057 - حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: أنا يعلى، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر".

                                                                                                                                                                              واحتج من خالفهم ورأى أن التغليس بصلاة الصبح أفضل بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على أن صلاته الفجر كان بغلس.

                                                                                                                                                                              1058 - حدثنا محمد بن إسماعيل وغيره، قالوا: نا الحميدي عبد الله بن الزبير ، قال: نا سفيان، قال: ثنا الزهري - كما أخبرك الآن - قال: أخبرني عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت: "كنا نساء [ ص: 77 ] (من) المؤمنات يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح وهن متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس" وربما قال سفيان: يعني [من] الغلس.

                                                                                                                                                                              1059 - [أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أبنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس].

                                                                                                                                                                              1060 - [حدثنا] سليمان بن شعيب، قال: نا بشر بن بكر ، قال: نا الأوزاعي ، عن نهيك بن [يريم] ، قال: نا مغيث بن سمي ، قال: إن ابن الزبير غلس بصلاة الفجر فأنكرت ذلك عليه، فلما سلم التفت إلى ابن عمر فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: "هذه صلاتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما قتل عمر أسفر بها عثمان".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: فدلت هذه الأخبار وسائر الأخبار في هذا الباب المذكورة في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب على أن النبي [ ص: 78 ] صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس، ودل على مثل ذلك الأخبار المذكورة في باب ذكر استحباب تعجيل الصلوات في أوائل أوقاتها، وكذلك كان فعل أبي بكر وعمر، والتغليس بالصبح أشبه بظاهر كتاب الله، قال الله جل ذكره: ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ، فالمصلي في أول وقت الصلاة أحرى بالمحافظة عليها ممن أخرها وعرضها للنسيان والعلل، مع أنا قد روينا في هذا الباب خبرا مفسرا يدل على آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر من فعله أولى عندنا وعند من خالفنا في جمل ما نعتمد نحن وهم عليه.

                                                                                                                                                                              1061 - حدثنا الربيع بن سليمان، قال: نا ابن وهب ، قال: أخبرني أسامة، أن ابن شهاب أخبره، أن عمر بن عبد العزيز قال له عروة : سمعت بشير بن أبي مسعود الأنصاري يقول: سمعت أبا مسعود يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات، ثم لم يعد إلى أن يسفر".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر وثبوت أبي بكر وعمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التغليس دال على صحة هذا القول. [ ص: 79 ]

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم في معنى الإسفار، فقال بعضهم: معنى ذلك أن يتبين الفجر الآخر. مال إلى هذا القول الشافعي ، وأحمد.

                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: معروف في كلام العرب قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها، وأسفري عن وجهك، أي اكشفي.

                                                                                                                                                                              وقال آخر: فلما احتمل الإسفار المعنيين، كانت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحتمل إلا معنى واحدا أولى، وقد روي عن يحيى بن آدم أنه قال: لا يحتاج مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد، وإنما كان يقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؛ ليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عليها.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية