ذكر اختلاف أهل العلم في القسامة 
اختلف أهل العلم في القسامة . 
فقالت طائفة : القسامة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ فيها بالمدعيين في الأيمان ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا أحلف المدعى عليهم خمسين يمينا فإن حلفوا برئوا   . هذا قول  مالك  ،  والشافعي  ،  وأبي ثور  ، وهو مذهب ربيعة  ، ويحيى ابن سعيد  ، وأبي الزناد  ،  والليث بن سعد  ،  وأحمد بن حنبل .  
وفيه قول ثان : وهو إن شهد ذوا عدل على قاتله قتل به ، وإن لم يشهد ذوا عدل استحلف خمسين رجلا من المدعى عليهم بالله ما قتلوا ، ولا علموا قاتلا ، وإن لم يحلفوا استحلف خمسين من المدعين أن دمنا لفيكم ، ثم يعطون الدية . هذا قول  الحسن البصري  ، وعن  [ ص: 419 ]  عمر بن عبد العزيز  أنه لما رأى الناس يختلفون على القسامة بغير علم استحلفهم وألزمهم الدية ودرأ عن القتل . 
وفيه قول ثالث : وهو أن الذي يبدأ بالمدعى عليهم في الأيمان ، فإن نكلوا ردت على المدعين ، فإذا حلفوا وجب لهم القود   . 
ذكر  ابن جريج  أن  الزهري  أخبره عن سنة رسول الله فيها أن يكون على المدعى عليه وعلى أوليائه يحلف منهم خمسون رجلا إذا لم تكن بينة يؤخذ بها ، فإن نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ، ووليها المدعون فحلفوا بمثل ذلك ، فإن حلف منهم خمسون استحقوا ، وإن نقصت قسامتهم أو ارتد منهم أحد لم يعطوا الدم . 
وفيه قول رابع : روينا أن رجلا من بني سعد بن ليث  أجرى فرسا فوطئ على أصبع [رجل] من جهينة   [فنزى] [منها] فمات ، فقال  عمر بن الخطاب  للذين ادعي عليهم : أتحلفون خمسين يمينا ما مات [منها] ؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان . فقال للآخرين : أتحلفون أنتم ؟ قالوا : لا ، فقضى بشطر الدية على السعديين  . 
 9621  - حدثناه محمد بن نصر  ، حدثنا  يحيى بن يحيى  قال : قرأت على  مالك  ، عن  ابن شهاب  ، عن  عراك بن مالك   وسليمان بن يسار  أن رجلا من بني سعد بن ليث  أجرى فرسا . . .  [ ص: 420 ] 
وفي كتاب  عمر بن عبد العزيز   : قضى رسول الله فيما بلغنا في القتيل يوجد بين ظهراني ديار ، أن الأيمان على المدعى عليهم ، فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا ، فإن نكل الفريقان جميعا كانت الدية نصفين   : نصف على المدعى عليهم ، ونصف يبطله أهل الدعوى إذ كرهوا أن يستحقوا بأيمانهم . وكان  الليث بن سعد  يقول : كانت قضاة المدينة  وعلماؤهم يقولون : إذا نكل الفريقان عن القسامة غرم المدعى عليهم نصف الدية . 
وفيه قول خامس : وهو أن المدعى عليهم يستحقون ويغرمون الدية ، روينا هذا القول عن عمر   . 
 9622  - حدثنا  علي بن الحسن  ، حدثنا عبد الله بن الوليد  ، عن سفيان  ، حدثنا فراس  ، [  ومكحول   ] ، عن  الشعبي  أن قتيلا وجد بين وادعة وشاكر ، فقاسوا ما بين الفريقين فوجدوه أقرب إلى وادعة ، فحلفهم عمر خمسين يمينا ما (قتلناه) ، ولا علمنا (له) قاتلا ، وغرمهم الدية   .  [ ص: 421 ] 
وبه قال  النخعي  ،  والشعبي  ،  والثوري  ، وأصحاب الرأي قالوا : والقسامة خمسون رجلا يحلف كل رجل منهم بالله ما قتلت ، ولا علمت قاتلا ، ثم يغرمون الدية   . 
وفيه قول سادس : وهو الوقوف عن الحكم بالقسامة ، قال  الزهري   : دعاني  عمر بن عبد العزيز  فقال : إني أريد أن أدع القسامة ، يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون ، قال : قلت : ليس ذلك لك ، قضى بها رسول الله ، والخلفاء ، وإنك إن تتركها يوشك رجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه ، وإن للناس في القسامة لحياة . 
وروينا عن  سالم بن عبد الله  أنه قال وقد تيسر قوم من بني ليث  ليحلفوا الغد في القسامة ، فقال : يا [لعباد] الله لقوم [يحلفون] على أمر لم يروه ولم يحضروه ولم يشهدوا ، ولو كان لي أو إلي من الأمر شيء لعاقبتهم أو لنكلتهم أو لجعلتهم نكالا ، وما قبلت لهم شهادة  . 
وروينا عن  النخعي  أنه قال في القسامة : يجوز شاهدان يشهدان . وكان الحكم لا يرى القسامة شيئا .  [ ص: 422 ] 
قال  أبو بكر   : قال الله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر   ) ، وقال عز وجل ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول   ) ، فوجب لما اختلف أهل العلم في أمر القسامة الاختلاف الذي ذكرناه أن ينظر : هل للقسامة في كتاب الله أم في سنة رسول الله ذكر  ؟ فوجدنا الأخبار الثابتة عن رسول الله تدل على أنه حكم بالقسامة في القتيل الذي وجد من الأنصار بخيبر   . 
 9623  - حدثنا  علي بن عبد العزيز  ، حدثنا  أبو النعمان  ، حدثنا  حماد بن زيد  ، حدثنا يحيى بن سعيد  ، عن  بشير بن يسار  ، عن سهل بن أبي حثمة  ،  ورافع بن خديج  أنهما حدثاه أن عبد الله بن سهل  ومحيصة بن مسعود  أتيا خيبر  لحاجة فتفرقا في نخلها ، فقتل عبد الله بن سهل  ، فأتى أخوه عبد الرحمن  وابنا عمه محيصة وحويصة ابنا مسعود  ، فبدأ عبد الرحمن  فتكلم ، فقال رسول الله : "كبر الكبير" - يقول : يبدأ بالكلام الأكبر وكان عبد الرحمن أصغر من صاحبيه - فتكلما في قتل صاحبهما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "استحقوا قتيلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم" . 
قالوا : لم نشهد فكيف نحلف ؟ ! فقال : "تبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" . قالوا : قوم كفار . قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سهل   : فأدركت ناقة من تلك الإبل فركضتني ركضة في مربد لهم   . 
 9624  - أخبرنا  الربيع بن سليمان  قال : أخبرنا  الشافعي  قال : أخبرنا  [ ص: 423 ]  مالك  ، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن  ، عن سهل بن أبي حثمة  ، أنه أخبره ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل  ومحيصة  خرجا إلى خيبر  من جهد أصابهما ، فتفرقا في حوائجهما ، فأتى محيصة  فأخبر أن عبد الله بن سهل  قد قتل وطرح في فقيراء وعين ، فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، قالوا : والله ما قتلناه ، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم ، فأقبل هو وأخو حويصة  وهو أكبر منه ، وعبد الرحمن بن سهل  أخو المقتول ، فذهب محيصة  يتكلم ، وهو الذي كان بخيبر   . (فقال رسول الله لمحيصة   : "كبر كبر" - يريد السن - فتكلم حويصة  ثم تكلم محيصة)  فقال رسول الله : "إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب" ، فكتب إليهم رسول الله في ذلك فكتبوا : أما والله ما قتلناه . فقال رسول الله لحويصة  ومحيصة  وعبد الرحمن   : "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ " قالوا : لا . قال : "فتحلف يهود" . قالوا : ليسوا مسلمين ، فوداه رسول الله من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حمراء   . 
قال  أبو بكر   : وقد دفع بعض أهل الكوفة  هذه الأخبار معتلا بأن الأولياء إنما يحلفون على ما لا يعلمون ، قال : وهذا لا يجوز ، وقد عارضه غيره من أصحابنا فقال : العلم يكون من وجوه ، منها ما يعاينه الشاهد فيشهد به ، ومنها ما يسمعه من الشهود عليه ، ومنها ما يستفيض به عنده الأخبار حتى تثبت معرفة ذلك في قلبه ويسكن القلب عليه  [ ص: 424 ] فيشهد به ، وقد يثبت الشيء عند الرجل بما تواتر الأخبار عنده فيحلف على ما غاب عنه إذا ثبت ذلك عنده من جهة الأخبار ، وأهل القسامة يجوز أن يكونوا عاينوا قتل صاحبهم ، وقد يجوز أن يسمعوا إقرار القاتل بقتل صاحبهم ، وقد يثبت ذلك عندهم بأخبار الصادقين حتى يقر ذلك في قلوبهم ، وقد يموت الرجل ويخلف ولدا صغيرا فيكبر فيجد لأبيه مالا في يدي الوصي فيجوز له ملكه وإن ادعى عليه فيه مدع حلف أنه لا حق له فيه ، وكل ذلك على ما يثبت عنده من أخبار من يصدق من المخبرين . 
قال  أبو بكر   : والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب القسامة يستغنى بها عما سواها . 
				
						
						
