الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم في القسامة

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في القسامة .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : القسامة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ فيها بالمدعيين في الأيمان ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نكلوا أحلف المدعى عليهم خمسين يمينا فإن حلفوا برئوا . هذا قول مالك ، والشافعي ، وأبي ثور ، وهو مذهب ربيعة ، ويحيى ابن سعيد ، وأبي الزناد ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان : وهو إن شهد ذوا عدل على قاتله قتل به ، وإن لم يشهد ذوا عدل استحلف خمسين رجلا من المدعى عليهم بالله ما قتلوا ، ولا علموا قاتلا ، وإن لم يحلفوا استحلف خمسين من المدعين أن دمنا لفيكم ، ثم يعطون الدية . هذا قول الحسن البصري ، وعن [ ص: 419 ] عمر بن عبد العزيز أنه لما رأى الناس يختلفون على القسامة بغير علم استحلفهم وألزمهم الدية ودرأ عن القتل .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث : وهو أن الذي يبدأ بالمدعى عليهم في الأيمان ، فإن نكلوا ردت على المدعين ، فإذا حلفوا وجب لهم القود .

                                                                                                                                                                              ذكر ابن جريج أن الزهري أخبره عن سنة رسول الله فيها أن يكون على المدعى عليه وعلى أوليائه يحلف منهم خمسون رجلا إذا لم تكن بينة يؤخذ بها ، فإن نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم ، ووليها المدعون فحلفوا بمثل ذلك ، فإن حلف منهم خمسون استحقوا ، وإن نقصت قسامتهم أو ارتد منهم أحد لم يعطوا الدم .

                                                                                                                                                                              وفيه قول رابع : روينا أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطئ على أصبع [رجل] من جهينة [فنزى] [منها] فمات ، فقال عمر بن الخطاب للذين ادعي عليهم : أتحلفون خمسين يمينا ما مات [منها] ؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان . فقال للآخرين : أتحلفون أنتم ؟ قالوا : لا ، فقضى بشطر الدية على السعديين .

                                                                                                                                                                              9621 - حدثناه محمد بن نصر ، حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن عراك بن مالك وسليمان بن يسار أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا . . . [ ص: 420 ]

                                                                                                                                                                              وفي كتاب عمر بن عبد العزيز : قضى رسول الله فيما بلغنا في القتيل يوجد بين ظهراني ديار ، أن الأيمان على المدعى عليهم ، فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا ، فإن نكل الفريقان جميعا كانت الدية نصفين : نصف على المدعى عليهم ، ونصف يبطله أهل الدعوى إذ كرهوا أن يستحقوا بأيمانهم . وكان الليث بن سعد يقول : كانت قضاة المدينة وعلماؤهم يقولون : إذا نكل الفريقان عن القسامة غرم المدعى عليهم نصف الدية .

                                                                                                                                                                              وفيه قول خامس : وهو أن المدعى عليهم يستحقون ويغرمون الدية ، روينا هذا القول عن عمر .

                                                                                                                                                                              9622 - حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن سفيان ، حدثنا فراس ، [ ومكحول ] ، عن الشعبي أن قتيلا وجد بين وادعة وشاكر ، فقاسوا ما بين الفريقين فوجدوه أقرب إلى وادعة ، فحلفهم عمر خمسين يمينا ما (قتلناه) ، ولا علمنا (له) قاتلا ، وغرمهم الدية . [ ص: 421 ]

                                                                                                                                                                              وبه قال النخعي ، والشعبي ، والثوري ، وأصحاب الرأي قالوا : والقسامة خمسون رجلا يحلف كل رجل منهم بالله ما قتلت ، ولا علمت قاتلا ، ثم يغرمون الدية .

                                                                                                                                                                              وفيه قول سادس : وهو الوقوف عن الحكم بالقسامة ، قال الزهري : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال : إني أريد أن أدع القسامة ، يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون ، قال : قلت : ليس ذلك لك ، قضى بها رسول الله ، والخلفاء ، وإنك إن تتركها يوشك رجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه ، وإن للناس في القسامة لحياة .

                                                                                                                                                                              وروينا عن سالم بن عبد الله أنه قال وقد تيسر قوم من بني ليث ليحلفوا الغد في القسامة ، فقال : يا [لعباد] الله لقوم [يحلفون] على أمر لم يروه ولم يحضروه ولم يشهدوا ، ولو كان لي أو إلي من الأمر شيء لعاقبتهم أو لنكلتهم أو لجعلتهم نكالا ، وما قبلت لهم شهادة .

                                                                                                                                                                              وروينا عن النخعي أنه قال في القسامة : يجوز شاهدان يشهدان . وكان الحكم لا يرى القسامة شيئا . [ ص: 422 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قال الله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ، وقال عز وجل ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ، فوجب لما اختلف أهل العلم في أمر القسامة الاختلاف الذي ذكرناه أن ينظر : هل للقسامة في كتاب الله أم في سنة رسول الله ذكر ؟ فوجدنا الأخبار الثابتة عن رسول الله تدل على أنه حكم بالقسامة في القتيل الذي وجد من الأنصار بخيبر .

                                                                                                                                                                              9623 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج أنهما حدثاه أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر لحاجة فتفرقا في نخلها ، فقتل عبد الله بن سهل ، فأتى أخوه عبد الرحمن وابنا عمه محيصة وحويصة ابنا مسعود ، فبدأ عبد الرحمن فتكلم ، فقال رسول الله : "كبر الكبير" - يقول : يبدأ بالكلام الأكبر وكان عبد الرحمن أصغر من صاحبيه - فتكلما في قتل صاحبهما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "استحقوا قتيلكم أو صاحبكم بأيمان خمسين منكم" .

                                                                                                                                                                              قالوا : لم نشهد فكيف نحلف ؟ ! فقال : "تبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" . قالوا : قوم كفار . قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سهل : فأدركت ناقة من تلك الإبل فركضتني ركضة في مربد لهم
                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                              9624 - أخبرنا الربيع بن سليمان قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا [ ص: 423 ] مالك ، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن سهل بن أبي حثمة ، أنه أخبره ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما ، فتفرقا في حوائجهما ، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقيراء وعين ، فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ، قالوا : والله ما قتلناه ، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم ، فأقبل هو وأخو حويصة وهو أكبر منه ، وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول ، فذهب محيصة يتكلم ، وهو الذي كان بخيبر . (فقال رسول الله لمحيصة : "كبر كبر" - يريد السن - فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة) فقال رسول الله : "إما أن تدوا صاحبكم ، وإما أن تؤذنوا بحرب" ، فكتب إليهم رسول الله في ذلك فكتبوا : أما والله ما قتلناه . فقال رسول الله لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ " قالوا : لا . قال : "فتحلف يهود" . قالوا : ليسوا مسلمين ، فوداه رسول الله من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حمراء .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد دفع بعض أهل الكوفة هذه الأخبار معتلا بأن الأولياء إنما يحلفون على ما لا يعلمون ، قال : وهذا لا يجوز ، وقد عارضه غيره من أصحابنا فقال : العلم يكون من وجوه ، منها ما يعاينه الشاهد فيشهد به ، ومنها ما يسمعه من الشهود عليه ، ومنها ما يستفيض به عنده الأخبار حتى تثبت معرفة ذلك في قلبه ويسكن القلب عليه [ ص: 424 ] فيشهد به ، وقد يثبت الشيء عند الرجل بما تواتر الأخبار عنده فيحلف على ما غاب عنه إذا ثبت ذلك عنده من جهة الأخبار ، وأهل القسامة يجوز أن يكونوا عاينوا قتل صاحبهم ، وقد يجوز أن يسمعوا إقرار القاتل بقتل صاحبهم ، وقد يثبت ذلك عندهم بأخبار الصادقين حتى يقر ذلك في قلوبهم ، وقد يموت الرجل ويخلف ولدا صغيرا فيكبر فيجد لأبيه مالا في يدي الوصي فيجوز له ملكه وإن ادعى عليه فيه مدع حلف أنه لا حق له فيه ، وكل ذلك على ما يثبت عنده من أخبار من يصدق من المخبرين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب القسامة يستغنى بها عما سواها .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية