الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر استتابة الزنديق

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الزنديق يظهر عليه ، هل يستتاب أم يقتل ولا يقبل منه الرجوع ؟ فقالت طائفة : تقبل توبته إن تاب ، ويقتل إن لم يتب .

                                                                                                                                                                              9661 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا سماك بن حرب ، عن قابوس بن مخارق بن سليم ، عن أبيه ، أن محمد بن أبي بكر كتب إلى علي بن أبي طالب يسأله عن ثلاث خصال : عن مكاتب مات وترك مالا وولدا ، وقد بقي عليه شيء من مكاتبته ، وعن زنادقة مسلمين ، وزنادقة نصارى ، وعن مسلم زنى بنصرانية . فكتب إليه علي : أما المكاتبة فتكمل مما ترك ، ويصير ما بقي ميراثا لولده . وأما زنادقة المسلمين فتعرض عليه الإسلام ، فإن أسلموا وإلا قتلوا . وأما زنادقة النصارى فيتركون وأهل دينهم . وأما المسلم الذي زنى بنصرانية فيقام عليه الحد ، وأما النصرانية فتترك وأهل دينها . [ ص: 494 ]

                                                                                                                                                                              وممن كان يرى أن يستتاب الزنديق : عبيد الله بن الحسن ، والشافعي ، قال الشافعي : وإنما كلف الله العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل ، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه ، وقد قال الله عز وجل لنبيه : ( إذا جاءك المنافقون ) إلى قوله : ( فهم لا يفقهون ) ، وقد قيل في قول الله عز وجل : ( والله [يشهد] إن المنافقين لكاذبون ) : ما هم بمخلصين ، وفي قوله : ( آمنوا ثم كفروا ) : ثم أظهروا الرجوع عنه .

                                                                                                                                                                              قال الله عز وجل : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) ، وفي قوله : ( اتخذوا أيمانهم جنة ) يدل على أن إظهار الإيمان جنة من القتل ، والله ولي السرائر .

                                                                                                                                                                              9662 - أخبرنا الربيع ، قال : أخبرنا الشافعي ، قال : أخبرنا يحيى بن حسان ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن المقداد ، أنه أخبره ، أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني [فضرب إحدى يدي بسيف فقطعها] ثم لاذ مني بشجرة فقال : أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله [ ص: 495 ] بعد أن قالها ؟ . . . . وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                              9663 - حدثنا محمد بن مهل ، حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن المقداد بن الأسود ، أنه قال : قلت : يا رسول الله ، إن اختلفت أنا ورجل من المشركين ضربتين بالسيف ، فضربني فقطع يدي ، فلما أهويت إليه لأقتله قال : لا إله إلا الله ، أقتله أم أدعه ؟ قال : "لا ، بل دعه" . قال : قلت : إنه قد قطع يدي! - قال : فراجعته مرتين أو ثلاثة - . فقال : "إن قتلته بعد أن يقولها فأنت مثله قبل أن يقولها ، وهو مثلك قبل أن يقطع يدك" .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين دلالة على أمور ، منها : أن لا يقتل من أظهر التوبة ممن كفر بعد إيمان ، ومنها : أنه حقن دماءهم وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية ولا دين يظهرونه ، بما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر ، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظاهر على أحكام المسلمين ، فناكحوا المسلمين ووارثوهم ، وأسهم لمن شهد الحرب منهم ، وتركوا في مساجد المسلمين ، ولا راجع عن إيمان أبدا أشد ولا أبين كفرا ممن أخبر الله عن كفره بعد إيمانه . [ ص: 496 ]

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وأحكام الله ورسوله تدل على أن ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر ، والظاهر ما أقر به أو قامت به بينة عليه فيما وصفنا من المنافقين ، وفي الرجل الذي استفتى فيه المقداد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قطع يده على الشرك ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "فهلا كشفت عن قلبه" ليس لك إلا ظاهره ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين : "إن جاءت به أحمر كأنه وحرة ، فلا أراه إلا قد كذب عليها ، وإن جاءت به أديعج جعدا ، فلا أراه إلا قد صدق" ، فجاءت به على النعت المكروه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أمره لبين لولا ما حكم الله" ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار" .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : ففي كل هذا دلالة بينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقض إلا على الظاهر فالحكام بعده أولى ألا يقضوا إلا على الظاهر ، ولا يعلم السرائر إلا الله ، والظنون محرم على الناس ، ومن حكم بالظن لم يكن له ذلك ، والله أعلم . [ ص: 497 ]

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : لا يستتابون . هذا قول مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                              قال مالك : من أخذ من المسلمين قد أسر دينا من الأديان من اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الأديان قتل ولم يستتب ، كما يقتل الزنادقة ولا يستتابون ، وكان مالك يقول : من أظهر الكفر استتيب ، فإن تاب وإلا قتل ، ولم يرثه ورثته ، والذي يسر الكفر ويظهر الإسلام لا يستتاب ، يقتل على كل حال ويرثه ورثته .

                                                                                                                                                                              قال مالك : هم عندي بمنزلة المنافقين يرثهم ورثتهم ، هكذا حكاه عنه محمد بن مسلمة ، والذي حكي عن أحمد بن حنبل وإسحاق أن الزنديق لا يستتاب . إسحاق بن منصور .

                                                                                                                                                                              وحكى الأثرم أنه قال لأحمد : الزنديق يستتاب ؟ قال : فقال : ما أدري .

                                                                                                                                                                              9664 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، أن علي بن أبي طالب أتي بزنادقة أو مرتدين فأجج لهم نارا فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس [ ص: 498 ] فقال : لو كنت أنا ما أحرقتهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تعذبوا بعذاب الله أحدا ، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه" .

                                                                                                                                                                              9665 - حدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا سعيد ، حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عليا حرق قوما ، فقال ابن عباس : لو كنت أنا لقتلتهم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من بدل دينه فاقتلوه" ، ولم أحرقهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل" .

                                                                                                                                                                              9666 - حدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، قال : شهدت عليا أتي بناس من الزط قد ارتدوا عن الإسلام أو زنادقة ، فأمر بهم علي فضربت أعناقهم وحرق أجسادهم ، ثم قال : صدق الله ورسوله ، صدق الله ورسوله .

                                                                                                                                                                              قال الشعبي : حدثني أبو جحيفة قال : لقيته بعدما انصرف فقلت : يا أمير المؤمنين ، رأيتك حين قتلت هؤلاء وحرقت أجسادهم قلت : صدق الله ورسوله ، أعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليك فيهم شيئا ؟ قال : إني قد أعرف أنك ومن على مثل رأيك تعرفون ما أريد ، إني محارب ، ولكن إذا قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهناك فسلوني .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : كما قال الشافعي أقول للحجج الذي احتج بها . [ ص: 499 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية