الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر ارتداد المرأة المسلمة عن الإسلام

                                                                                                                                                                              ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من بدل دينه فاقتلوه" ، لم يخص رجلا دون امرأة ، فالقول بظاهر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف فيه : فقالت طائفة في المرأة ترتد عن الإسلام : تقتل إن لم ترجع إلى الإسلام ، كذلك قال النخعي ، والزهري ، والحسن البصري ، ومكحول ، وحماد بن أبي سليمان ، وروي ذلك عن عبد الملك بن مروان ، وهو قول مالك والأوزاعي ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . [ ص: 466 ]

                                                                                                                                                                              9644 - حدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك الدمشقي ، قال : أخبرني أبي أن أبا بكر الصديق قتل امرأة يقال لها : أم قرفة في الردة .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان : وهو أنها تسترق ولا تقتل .

                                                                                                                                                                              9645 - حدثونا (عن بندار أبو داود ) ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن علي في المرأة ترتد عن الإسلام ، قال : [تستتاب] .

                                                                                                                                                                              وكذلك قال قتادة ، وقال مرة : تسبى [و] تباع ، قال : وكذلك فعل أبو بكر بسبي أهل الردة ، باعهم . [ ص: 467 ]

                                                                                                                                                                              وقال الحسن البصري : تسترق ولا تقتل ، روينا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : تباع بأرض ليس بها من أهل دينها أحد .

                                                                                                                                                                              9646 - حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمار الدهني ، قال : سمعت أبا الطفيل يقول : بعث علي معقلا السلمي إلى بني ناجية فوجدهم على ثلاثة أصناف : صنف كانوا نصارى فأسلموا ، وصنف ثبتوا على النصرانية ، وصنف أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام إلى النصرانية ، فجعل بينه وبين أصحابه علامة إذا رأيتموها فضعوا السلاح في الصنف الذين أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ، فأراهم العلامة فوضعوا السلاح فيهم ، فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، فباعهم من مسقلة بمائة ألف فنقده خمسين وبقيت خمسون ، قال : فأجاز علي ذلك . قال : ولحق مسقلة بمعاوية وأعتقهم ، فأجاز علي عتقهم ، وأتى دار مسقلة فشعث فيها فأتوه بعد ذلك فقال : أما صاحبكم فقد لحق بعدوكم فائتوني آخذ لكم بحقكم .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث : وهو أنها تسجن ولا تقتل .

                                                                                                                                                                              9647 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عاصم ، [ ص: 468 ] عن أبي رزين ، عن ابن [عباس ] ، قال : تحبس ولا تقتل المرأة ترتد .

                                                                                                                                                                              9648 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن سفيان ، حدثنا بعض أصحابنا ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، أنه قال في المرتدة : لا تقتل ، تسجن .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن عطاء أنه قال في المرتدة : تسجن .

                                                                                                                                                                              وقال النعمان في الحر والعبد المسلمين كما قال مالك ، وقال في المرأة الحرة المسلمة والأمة المسلمة يرتدان عن الإسلام : يجبران على الإسلام ، ولا يقتلان ، فتحبس المرأة الحرة وتجبر على الإسلام ، وأما الأمة فترد إلى مولاها ، ويؤمر مولاها أن يجبرها على الإسلام . [ ص: 469 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد تكلم في هذه المسألة بعض أصحابنا وقال : حديث عاصم بن بهدلة ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس في المرتدة تحبس ولا تقتل . فإن أصحاب عاصم المعروفين بصحبته كشعبة ، وابن عيينة ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة لم يرو واحد منهم هذا الحديث عن عاصم ، إنما تفرد بروايته أبو حنيفة ، وهو غير معروف بصحبة عاصم ، وهو حديث منكر خلاف السنة ، وقد كان أبو بكر بن عياش من خواص عاصم والمعروفين بصحبته ، كتب إلي بعض أصحابنا قال : حدثني أبو قدامة قال : سمعت أبا زيد المدائني قال : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : لقيت أبا حنيفة فقلت له : هذا الذي رويت عن ابن عباس في المرتدة إنما هو حديث : من أتى بهيمة قال : فجعل يتلوم ويتشكك لا يقوم عليه . [ ص: 470 ]

                                                                                                                                                                              9649 - حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا سفيان وإسرائيل ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس قال : من أتى بهيمة فلا حد عليه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد ذكرنا حديث عاصم ، عن أبي رزين عن ابن عباس من حديث الثوري ذكر لأحمد بن حنبل حديث عاصم عن أبي رزين في المرتدة قال : هذا رواه أبو حنيفة .

                                                                                                                                                                              قال عبد الرحمن : قيل لسفيان : سمعت حديث المرتدة ؟ قال : أما من ثقة فلا . قال أبو عبد الله : إنما سمعه من أبي حنيفة . كتب إلي بعض أصحابنا ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا المؤمل ، قال : ذكر أبو حنيفة عند الثوري فقال وهو في الحجر : غير ثقة ولا مأمون . وقال حدثني أحمد بن سعيد الدارمي قال : حدثنا محمد بن كثير قال : سمعت سفيان [ ص: 471 ] وحدث بحديث فقال له رجل : يا أبا عبد الله سمعته على غير ما حدثت . قال : من حدثك ؟ قال : أبو حنيفة ، قال : أحلتني على غير ملي وقال : حدثني (أحمد بن القهزاد) ، حدثني أبو إسحاق إبراهيم ابن الأشعث قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : كان الثوري إذا رأى إنسانا مماريا مكابرا يماري الناس ويكابرهم بغير علم قال : أبو حنيفة والله .

                                                                                                                                                                              وقال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا يزيد بن سنان ، أنه قال لابن المبارك يوما : أبو يوسف كان أعلم أم محمد بن الحسن ؟ فقال : لا تقل أيهما أعلم وقل : أيهما أكذب .

                                                                                                                                                                              وكتب إلي أبو العباس السراج : حدثنا العباس بن أبي طالب ، حدثنا شيبان بن فروخ ، عن رجل قال : ربما حضرنا أيوب السختياني فيمر بالحديث فيقول : عن من ذي ؟ فنقول : عن أبي حنيفة ، فيقول بيده : دعوه .

                                                                                                                                                                              وقال : حدثنا الجوهري ، قال : حدثنا إبراهيم بن شماس ، قال : كنت [ ص: 472 ] مع ابن المبارك في السفينة لما انصرف من الثغر ، فكان يحدثنا فيمر على شيء من حديث أبي حنيفة فقال : اضربوا على حديث أبي حنيفة ، فإني قد ضربت على حديث أبي حنيفة ورأيه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" . فإذا كان الكفر من أعظم الذنوب ، [ ص: 473 ] وأجل جرم اجترمه المسلمون من الرجال والنساء ، ولله أحكام في كتابه وحدود ألزمه عباده دون الكفر ، من ذلك : الربا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وحد القذف ، والقصاص الذي أوجبه في كتابه ، وكانت الأحكام والحدود التي هي دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قولا عاما يدخل فيه الرجال والنساء : "من بدل دينه فاقتلوه" ، وكيف يجوز أن يفرق مفرق بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ، ويلزمهن ما دون ذلك ، ولو لم يكن لما ذكرناه شاهد يدل على خلاف ما قاله هذا القائل إلا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين ثلاثة أشياء في خبر واحد فقال : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس" . فإذا قال من خالفنا إنها تستوي والرجل في الزنا إذا كانت فضية ويجب قتلها ، وإذا قتلت من بينها وبينه القصاص من الرجال قتلت به . فكيف يجوز له أن يفرق بين ما جمع بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخصها بخصلة من الثلاث خصال بغير حجة يرجع إليها ، ما أبين التناقض في هذا القول بل حكايته تجزئ عن الإدخال على قائله ، ولو اعترض معترض فقال : أقول بالذي روي عن عمر بن الخطاب أنه أمر بحبس المرتد ، لأن إسناده أثبت إسنادا من حديث ابن عباس ، ولأن عمر أعلى من ابن عباس وأولى بالاتباع ، لما كانت الحجة عليه إلا لهي على الذي أمر بحبس المرأة المرتدة . والذي يجب القول به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه [ ص: 474 ] الحجة على الأولين والآخرين ، ولا يجوز ترك السنة بقول أحد من الناس ، والذي خالف السنة الثابتة في هذا الباب ، وخالف عمر بن الخطاب فأظهر اتباع ابن عباس فيما لا يثبت عنه ، قد خالف ابن عباس في أشياء ثابتة عنه .

                                                                                                                                                                              9650 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ح . وحدثنا الصائغ قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا يقولان عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية قال : يرجم .

                                                                                                                                                                              وخالف النعمان هذا الحديث فقال : لا حد عليه . ولو ذهبنا نكتب ما خالف أصحاب الرأي ابن عباس لكثر ذلك وطال الكتاب .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الأمة ترتد عن الإسلام ، ففي قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : تقتل إن لم تتب .

                                                                                                                                                                              وفي قول أصحاب الرأي : تدفع إلى مولاها ، ويؤمر مولاها أن يجبرها على الإسلام . [ ص: 475 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : بقول مالك ومن وافقه أقول ، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم قولا عاما : "من بدل دينه فاقتلوه" .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية