الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الطلاق الذي يكون مطلقه مصيبا للسنة

                                                                                                                                                                              أجمع أهل العلم على أن من طلق زوجته طلقة واحدة وهي طاهر من [ ص: 139 ] حيضة لم يكن طلقها فيها، ولم يكن جامعها في ذلك الطهر، أنه مصيب للسنة، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها ما لم تنقض العدة، فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب.

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيمن أراد أن يطلقها في هذه الحال ثلاثا: فقال أكثر أهل العلم: الطلاق الذي يكون مطلقه مصيبا للسنة أن يطلقها إذا كانت مدخولا بها طلاقا يملك فيه الرجعة، واحتجوا - أو من احتج منهم في ذلك - لظاهر قوله: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، إلى قوله: ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) قال: فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ قال: ومن طلق ثلاثا فما جعل الله له مخرجا ولا من أمره يسرا، قال: وهو طلاق السنة الذي أجمع أهل العلم عليه أنه السنة.

                                                                                                                                                                              فأما ما زاد على ذلك مما لا مراجعة لمطلقه عليها فليس للسنة إذا كان من طلق ثلاثا لا يجوز أن يحدث له بعد ذلك أمرا، فمن فعل ذلك فقد خالف ما أمره الله به، وما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أمر الله - عز وجل - أن يطلق للعدة، فإذا طلق ثلاثا فأي عدة تحصى، وأي أمر يحدث؟! وذلك خلاف أمر الله تعالى، قال: وفي قوله: ( الطلاق مرتان ) دليل على أنها طلقة واحدة في كل مرة، فجعل الله - عز وجل - الزوج بعد أن يطلق مرتين مخيرا بين أن يمسك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولو كان طلق [ ص: 140 ] المطلق في إحدى المرتين أكثر من طلقة لما جاز له بعد المرتين أن يمسك بمعروف ولا بغير معروف؛ لأنه كان يطلقها حينئذ ثلاثا.

                                                                                                                                                                              فأما ما اعتل به من رأى أن يطلق الثلاث في مرة واحدة مطلق للسنة محتجا بحديث العجلاني، فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبية، علم الزوج الذي طلق ذلك أو لم يعلم؛ لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل، وقبل أن تلتعن المرأة فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعان الزوج وحده.

                                                                                                                                                                              فأما حديث ابن عمر فإنما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر ما ليس بمنصوص في القرآن، فأما من هو يستغنى فيه بكتاب الله فلم يذكره كما فعل بعمر حين سأله عن الكلالة، فقال: تكفيك الآية التي نزلت في الصيف.

                                                                                                                                                                              واحتجوا بالأخبار التي رويت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                              7605 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: كنت قاعدا عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننا أنه سيردها عليه، ثم رفع رأسه، وقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، قال الله - عز وجل - : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن من قبل عدتهن) وإنك لم تفعل، وقال: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) وإنك لم تتق الله، ولا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. [ ص: 141 ]

                                                                                                                                                                              7606 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر في الذي يطلق امرأته البتة قال: عصى ربه وبانت منه امرأته.

                                                                                                                                                                              7607 - حدثنا يحيى بن محمد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني نافع، أن عبد الله بن عمر طلق امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... وذكر الحديث.

                                                                                                                                                                              قال: وكان - يعني ابن عمر - يقول للرجل: أما أنت طلقت امرأتك [ثلاثا] فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك، بئس الطلاق.

                                                                                                                                                                              7608 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، أخبرني أبو إسحاق قال: سمعت أبا الأحوص قال: قال عبد الله بن مسعود: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) قال: الطلاق للعدة أن تطلقها طاهرا، ثم تدعها حتى تنقضي عدتها أو تراجعها إن شئت.

                                                                                                                                                                              7609 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا يحيى بن عتيق، عن محمد قال: قال علي بن أبي طالب: لو أن الناس أخذوا بأمر الله في الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأته أبدا، يبدأ فيطلقها تطليقة، ثم يتربص ما بينه وبين أن تنقضي عدتها، فمتى شاء راجعها. [ ص: 142 ]

                                                                                                                                                                              7610 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد، حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي قال: ما طلق رجل امرأته للسنة فيندم أبدا.

                                                                                                                                                                              7611 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن إسماعيل بن عبد الله قال: أخبرني عبيد الله بن العيزار، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان عمر بن الخطاب إذا ظفر برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع رأسه.

                                                                                                                                                                              7612 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، [عن] ابن عمر، قال: من طلق امرأته ثلاثا طلقت، وعصى ربه.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ولو لم يكن فيما ذكرناه كتاب ولا سنة إلا قول من ذكرناه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، لكان الواجب [ ص: 143 ] ألا نخرج عن قولهم؛ لأن أصحابنا لا يرون أن نخرج عن قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى قول مثلهم.

                                                                                                                                                                              كذلك قالوا لما أوجبوا في حمام مكة شاة، ذكروا ما روي فيه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قالوا: ولا نعلم مثلهم خالفهم، وإن كان ظاهر الكتاب لا يدل عليه، فإذا كان هذا سبيل الشيء الذي فيه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم، فما وافق قولهم ظاهر الكتاب أولى أن يقال به، بل لا يجوز العدول عنه.

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: ليس في عدد الطلاق سنة؛ إذ الطلاق واحدة، وثنتين، وثلاثا، مباح، وما يباح فليس بمحظور.

                                                                                                                                                                              هكذا قال الشافعي، واحتج بأن عويمرا العجلاني طلق امرأته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان، ولو كان ذلك محظورا عليه نهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه وجماعة من حضر.

                                                                                                                                                                              وحكت فاطمة ابنة قيس أن زوجها طلقها البتة - يعني والله أعلم - فلم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن ذلك، وطلق ركانة امرأته البتة، وهي تحتمل واحدة وتحتمل ثلاثا، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نيته وأحلفه عليها، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقال بمثل قول الشافعي : أبو ثور، وأحمد بن [ ص: 144 ] حنبل، ثم بلغني عن أحمد أنه رجع عن ذلك وقال بمثل قول مالك، وروي عن ابن سيرين والشعبي مثل قول الشافعي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: فأما طلاق عبد الرحمن بن عوف وفاطمة بنت قيس، فإنما طلق فاطمة آخر تطليقة كانت بقية طلاقها، وكذلك عبد الرحمن بن عوف إنما طلق آخر التطليقات، فليس في واحد من ذين حجة، وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع، فبالقول الأول أقول؛ للحجج التي بينتها في هذا الكتاب، وفي الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية