الوجه الحادي والأربعون: وهو قوله: «معلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال» إما [ ص: 356 ] أن يريد به المعنى الذي يذكره المتكلمة الصفاتية الذين يقولون: هذه صفات معنوية، كما هو قول الأشعري وطوائف من والقلانسي الكرامية وغيرهم، وهو قول طوائف من الحنبلية وغيرهم. وإما أن يريد بمعنى: أنها أعيان قائمة بأنفسها.
فإن أراد به المعنى الأول فليس هو الذي حكاه عن الحنبلية; فإنه قال: «وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضا معترفون بأن ذاته مخالفة لسائر الذوات» إلى أن قال: «وأيضا فعمدة ، فإذا كان هذا قوله، فمعلوم أن هذا القول الذي حكاه هو قول من يثبت هذه بالمعنى الذي سماه هو «أجزاء، وأبعاضا» فتكون هذه صفات قائمة بنفسها، كما هي قائمة بنفسها في الشاهد، كما أن العلم والقدرة قائم بغيره في الغائب والشاهد، لكن لا تقبل التفريق والانفصال، كما أن علمه وقدرته لا تقبل الزوال عن ذاته، وإن كان المخلوق يمكن مفارقة ما هو [ ص: 357 ] قائم به، وما هو منه يمكن مفارقة بعض ذلك بعضا، فجواز ذلك على المخلوق لا يقتضي جوازه على الخالق، وقد علم أن الخالق ليس مماثلا للمخلوق، وأن هذه الصفات وإن كانت أعيانا فليست لحما ولا عصبا ولا دما ولا نحو ذلك، ولا هي من جنس شيء من المخلوقات. مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو خبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق، ويدا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال»
فإذا كان هذا هو القول الذي ذكر أنه تنفيه الحنابلة، وأن هذا هو الظاهر، فلو كان هذا مما لا يقبله الوهم والخيال لوجب نفرة من سمع القرآن والحديث عن ذلك من الكفار والمؤمنين، ولوجب أن يكون المشركون يقدحون فيه بأنه جاء بما تنكره الفطرة، ولوجب أن المؤمنين عوامهم وخواصهم يكون عندهم في ذلك شبهة وإشكال حتى يسألوا عن ذلك، كما وقعت الشبهة عند من سمع ذلك واعتقد نفي هذا المعنى، إذ يرى ذلك متناقضا، ولوجب أن علماء السلف وأئمة الأمة يتكلمون بما ينفي هذا المرض ويزيل هذه الشبهة، ويكون ذلك من أعظم الطاعات، بل من أكبر الواجبات، فلما لم يكن شيء من ذلك، علم أن هذا الذي ذكرته عنهم ليس هو مما ينكره الوهم والخيال. [ ص: 358 ]
ألا ترى أن ما تقوله: من أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه متى صرحت به لجمهور الناس تلقوه بالرد والإنكار; ولهذا كان الحذاق من أهل هذا القول يتواصون بكتمانه وإخفائه، وكان السلف والأئمة في ذلك يفصحون به في المجالس العامة والخاصة، وهكذا الأمر فيما قبل شريعتنا، فإن التوراة فيها من هذا الباب نحو ما في القرآن، وكان موسى عليه السلام يبلغ ذلك لبني إسرائيل تبليغا عاما، والأنبياء بعده، ولم يكن بنو إسرائيل ينكرون ذلك، ولا كان الأنبياء يأمرونهم بترك ما فهموه من ذلك، فلو كان الوهم والخيال يرد ذلك للعامة، لكان يجب أن يكثر في العامة من يرد ذلك وهمه وخياله، وإن كان في الخاصة فكذلك، فلما لم يوجد في العامة ولا الخاصة من رد ذلك، لكونه لا يمكنه أن يتصور خياله ووهمه، علم بطلان ما ذكره; إذ الذين ينفون ذلك يزعمون أن القياس دل على نفيه.