[ ص: 282 ] قال أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير في كتاب شرح الأسماء الحسنى بعد أن حكى كلام الحضرمي: هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب ( تمهيد الأوائل ) له، وقاله الأستاذ في ( شرح أوائل الأدلة ) وهو قول ابن فورك أبي عمر بن عبد البر [ ص: 283 ] وغيرهما من الأندلسيين، وقول والطلمنكي في " شعار الدين ": ثم قال بعد أن ذكر في الاستواء أربعة عشر [ ص: 284 ] قولا: وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار، الخطابي الصالح فيما نقل عنهم الثقاة ". أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف
ونقل في كتاب مقالة أبو بكر بن فورك أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وموافقته وما بينهما من النزاع اليسير أو اللفظي فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا الأشعري رضي الله عنه في كتاب المقالات: من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وأبان ما أبان في آخره، أنه يقول بجميع ذلك. أبو الحسن
ثم سرد المقالة التي تقدم ذكرنا لها من كلام ابن فورك بعينها وما فيها من ذكر العرش واستواء الله عليه والصفات الخبرية وغير ذلك، كما تقدم، ثم قال في آخرها: فهذا يحقق لك من ألفاظه أنه يعتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم". الأشعري
ولا ريب أن هذا قول الأشعرية المتقدمين وأئمتهم كلهم [ ص: 285 ] ما علمت بينهم في ذلك نزاعا، وإنما أنكر ذلك من أنكره من متأخريهم، وجميع كتب الأشعري تنطق بذلك كما ذكرناه فيما تقدم من كتبه وفيما لم يصل إلينا مما يحيل هو عليه مثل ما ذكره ( في تبيين كذب المفتري ) فيما نسب إلى أبو القاسم بن عساكر بعد أن قال: " فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في ( الإبانة ) فإنه قال: " الحمد لله الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد" وذكر تمام الخطبة إلى أن قال: " فإن قال قائل قد أنكرتم قول أبي الحسن الأشعري المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا [ ص: 286 ] قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين. وذكر تمام الاعتقاد كما ذكرناه عنه فيما تقدم لما ذكر ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل في الإبانة. الأشعري
ثم قال ابن عساكر بعد أن فرغ من سياق ذلك: " فتأملوا - رحمكم الله- هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه".
قال الحافظ ابن عساكر: " قال في كتابه الذي سماه العمد في الرؤية: ألفنا كتابا كبيرا في الصفات، تكلمنا [ ص: 287 ] فيه على أصناف أبو الحسن المعتزلة والجهمية في فنون كثيرة من الصفات: في إثبات الوجه لله، واليدين، وفي استوائه على العرش".
ولشهرة هذا من مذهب قال الأشعري أبو الحسن علي بن مهدي الطبري المتكلم صاحب في كتابه الذي ألفه في مشكل الآيات في باب قوله: أبي الحسن الأشعري الرحمن على العرش استوى [طه: 5] اعلم أن بمعنى أنه عال عليه. ومعنى الاستواء الاعتلاء كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة واستويت على السطح بمعنى علوته، واستوى الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي. بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي. فالقديم جل جلاله عال على عرشه، قوله الله - سبحانه وتعالى- في السماء فوق كل شيء على عرشه، أأمنتم من في السماء [الملك: 16] وقوله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55] وقوله: إليه يصعد الكلم الطيب [ ص: 288 ] [فاطر: 10] وقوله: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [السجدة: 5]
قال: البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق استولى عليها. وقال: إن العرش يكون الملك. وزعم
[ ص: 289 ] فيقال: ما أنكرت أن يكون عرش الله جسما خلقه وأمر ملائكته بحمله، قال: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [الحاقة: 17] وأمية يقول:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الناس
وسوى فوق السماء سريرا
ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء، الذي من قول العرب: استوى فلان على كذا: أي استولى. إذا تمكن فيه بعد أن لم يكن متمكنا. فلما كان الباري لا يوصف بالتمكن بعد [ ص: 290 ] أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، ثم قال: حدثنا ثنا أبو عبد الله نفطويه، أبو سليمان قال: كنا عند فأتاه رجل فقال: ما معنى [ ص: 291 ] ابن الأعرابي، الرحمن على العرش استوى [طه: 5] قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال: ليس هو كذلك إنما معناه استولى. قال اسكت ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: استولى عليه، والله لا مضاد له وهو على عرشه كما أخبر". ابن الأعرابي:
[ ص: 292 ] قال أبو الحسن بن مهدي الطبري: فإن قيل: فما تقولون في قوله: أأمنتم من في السماء [الملك: 16] قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال فسيحوا في الأرض [التوبة: 2] بمعنى على الأرض، وقال: ولأصلبنكم في جذوع النخل [طه: 71] أي على جذوع النخل فكذلك قوله: أأمنتم من في السماء .
قال: فإن قيل فما تقولون في قوله تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم [الأنعام: 3] قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في ( السماوات ) ثم يبتدي وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق ملك؛ لدل على الملك بالشام والعراق لا أن ذاته فيهما. قال: فإن قيل: ما تقول في قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [المجادلة: 7] الآية قيل له: كون [ ص: 293 ] الشيء مع الشيء على وجوه: منها بالنصر، ومنها بالصحبة، ومنها بالمماسة، ومنها بالعلم، فمعنى هذا عندنا: أن الله تعالى مع كل الخلق بالعلم.
قال: قال البلخي: فإن قيل لنا: ما معنى رفع أيدينا إلى السماء؟ وقوله: والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]؟ قلنا: تأويل ذلك أرزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز أن نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء، وجاز أن يقال: أعمالنا ترفع إلى الله لما كانت حفظة الأعمال إنما مساكنهم في السماء، قيل له: إن كانت العلة في رفع أيدينا إلى السماء أن الأرزاق فيها [ ص: 294 ] وأن الحفظة مساكنهم في السماء جاز أن نخفض أيدينا في الدعاء نحو الأرض من أجل أن الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعاش، وأنها قرارهم ومنها خلقوا، أو لأن الملائكة معهم في الأرض. فلم تكن العلة في السماء بما وصفه، وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه لرفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه".
فإذا كان وسائر أئمة ابن فورك الأشعرية موافقين الكرامية وغيرهم على أن الله عز وجل نفسه فوق العرش وهم جميعا متفقون على مخالفة المعتزلة الذين ينفون ذلك ويتأولون الاستواء بمعنى الاستيلاء ونحو ذلك. وهم جميعا متفقون على الاستدلال على أن الله فوق العالم بالآيات التي ذكرها هذا الرازي من ناحية مخالفيه، مثل قوله: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] وقوله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك [آل عمران: 55] وقوله: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض [الملك: 16] ومثل ذلك في الآيات كما ذكرنا بعض ذلك.
وقد تنازع وأصحابه مع ابن فورك ابن الهيصم وأصحابه فإما [ ص: 295 ] أن يكون نزاعهم لفظيا أو معنويا فإن كان لفظيا لم يكن ذلك منافيا لاتفاقهم من جهة المعنى، وإن كانت المعاني متفقة لم يضر اختلاف الألفاظ إلا إذا كان منهيا عنها في الشريعة، وإن كان النزاع معنويا فهو أيضا قسمان: أحدهما: اختلاف تنوع بأن يكون هؤلاء يثبتون شيئا لا ينفيه هؤلاء وهؤلاء ينفون شيئا لا يثبته هؤلاء، فهذا أيضا ليس باختلاف معلوم إلا إذا كان كل منهما يدفع ما يقوله الآخر من الحق، فإذا كان أحدهما يثبت حقا والآخر ينفي باطلا كان على كل منهما أن يوافق الآخر، وإذا اختلفا كانا جميعا مذمومين، وهذا من الاختلاف الذي ذمه الله تعالى في كتابه، حيث قال سبحانه وتعالى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [البقرة: 176] وقال: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [آل عمران: 105] وأمثال ذلك.
وإن كانا قد تنازعا حقيقيا هما فيه متناقضان على حقيقة التناقض بحيث أن يكون أحدهما ينفي ما أثبته الآخر، فهذا بعد اتفاقهم على ومخالفتهم جميعا إثبات أنه فوق العرش فوق العالم، للمعتزلة- الذين سلك هذا الرازي وأمثاله مسلكهم في كتابه هذا التأسيس- إنما يكون بأن يقول المثبت: كونه فوق [ ص: 296 ] العرش يستلزم أن يكون في جهة أو يكون متحيزا أو أن يكون منقسما ونحو ذلك. ويقول الثاني: كونه على العرش لا يستلزم ذلك بل يجوز أن يكون على العرش ولا يكون جسما، وهذا الثاني قول الأشعرية. فالخلاف بينهم وبين الأشعرية أنه إذا كان على العرش هل يستلزم ذلك أن يكون جسما أو لا يستلزم ذلك.