أحدها: أن يقال هذه الحجة مبنية على مقدمتين:
إحداهما: أن الحق مسمى بأنه جواد.
والثانية: أن تفسير الجواد هو ما ذكرته، ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة أصلا لا بينة ولا شبهة، فكان ما ذكرته مجرد دعوى، لبست بها على الناس كما لبست بقولك: إنه غني، وأن الغني هو من يكون كذا. ولم تذكر على واحدة من المقدمتين حجة؛ لكن هناك ادعيت أن ثبوت الإرادة مستلزم للفقر إلى غيره، قد ثبت أنه واجب الوجود، فلا يكون مفتقرا إلى غيره، وهذه الحجة وإن كان قد تبين فسادها، فلم تذكر في اسم الجواد حجة نظيرها، بل كان هذا دعوى مجردة؛ إذ لا يمكنه أن يقول: واجب الوجود يجب أن يكون جوادا كما قال: يجب أن يكون غنيا.
[ ص: 521 ] الثاني: أن يقال: لا ريب أن الله عند أهل الملل، كريم، جواد، ماجد محسن، عظيم المن، قديم المعروف، وأن له الأسماء الحسنى، التي يثنى عليه فيها بإحسانه إلى خلقه، لكن وإن كانت هذه الحجة مبنية على تسليمهم ذلك، فليست حجة عقلية، بل جدلية، وهذا ليس بفلسفة.
الثالث: أن يقال: هم سموه بهذه الأسماء الحسنى، سموه بها بالمعنى الذي يفسرونه به، بالذي لا ينافي إرادته ورحمته؛ بل عندهم نفس الرحمة، التي نفيتها أنت لنفيك الإرادة، أو إرادة الإحسان إلى عباده، هي عندهم تدل على الإحسان والجود بلا نزاع بينهم؛ لكن طائفة من نفاة الصفات يجعلون الرحمة هي نفس الإحسان، وإن وافقهم على ذلك بعض الصفاتية، حتى بعض أصحاب أحمد رحمه الله. وطائفة كبيرة من الصفاتية يقولون: الرحمة تعود إلى إرادة الإحسان، وهذا قد يقوله بعض أصحاب والذي عليه أئمة الصفاتية وجمهورهم، أن الرحمة صفة لله ليست هي الإرادة، كما أن السمع والبصر ليس نفس العلم. أحمد،
[ ص: 522 ] والمقصود أنك إذا احتججت بموافقتهم لك على إطلاق الاسم، فإن كنت تحتج بالموافقة على معناه، لم يكن لك حجة، لأنهم متفقون على أن معنى هذا الاسم عندهم لا ينفي ما تنفيه أنت من إرادته وغير ذلك، وإن كنت تحتج بمجرد الموافقة على اللفظ مع التنازع في معناه، فهذه حجة فاسدة جدا، لأنهم أطلقوا الاسم بمعان، فادعيت أنت أنهم كان ينبغي أن يريدوا بهذا الاسم معان أخر، وهذا من جنس أن يقال: كان ينبغي أن يعنوا بلفظ الإحسان كذا، وبلفظ الحركة وبلفظ الفعل كذا، أو نحو ذلك من المعاني التي لم يريدوها بذلك اللفظ. وحاصله أنه اعتراض على اللغة، بأنه كان يجب أن يعني بألفاظها من المعاني أمورا أخر، ولا ريب أن هذا اعتراض فاسد على اللغة؛ فضلا أن يكون حجة في المعاني العقلية الإلهية.
الرابع: هب أنه سلم لك؛ أن اللفظ كان ينبغي أن يستعمل في المعاني التي ذكرتها، لكن هم إذا لم يستعملوها إلا في المعاني التي قصدوها، لم يكونوا موافقين لك على ما ادعيته من المعنى، وإن قصروا في العبارة؛ فيكون ما أثبته من المعنى أثبته بلا حجة لا علمية ولا جدلية، بل بمجرد الدعوى. وهذا بين [ ص: 523 ] واضح ولله تعالى الحمد.
الخامس: أنه لو احتج على هذا بدليل سمعي، مثل أن يثبت بالنص أنه جواد، لم يصح أن يفسره بهذا المعنى، لهذين الوجهين:
أحدهما: أن الأدلة التي يذكرها، ليست سمعية شرعية، وهو يعترف بذلك، فلا يقبل منه أن يذكر دليلا سمعيا، ويدعي أنه عقلي، مع أنه هذا الاسم ليس في القرآن، وإن جاء في بعض الأحاديث.
الثاني: أن المرجع في ثبوت هذه الأسماء عن الشارع وفي بيان معناها، إلى من نقل عنه القرآن والحديث، لفظه ومعناه، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين تلقوا الإيمان والقرآن والحديث بعضهم عن بعض، حتى يصل إليه، أو أخذ ذلك هو بلغته التي كان يخاطب بها، ولا ريب أن الفلاسفة من أبعد الناس عن ذلك، ولو ادعوا نقلا عن المرسلين للفظ ولمعناه، من غير رجوع في ذلك إلى أهل العلم بأثارة المرسلين، لم يكن ذلك مقبولا باتفاق العقلاء، ثم كيف يصح أن يحتج محتج بمثل هذه الدلالة الضعيفة، على نفي إرادة الله تعالى، والقرآن مملوء من إثبات إرادته ومشيئته، ورحمته [ ص: 524 ] وحكمته، ولو قدر أنه يتناول ذلك، كان من المعلوم بالاضطرار لكل أحد، أن ما ذكره ليس فيه ظهور يحتاج إلى تأويل؛ بل هو أبعد من ذلك، فكيف يتأول النصوص والظواهر لأجل ذلك؟! وإنما غاية المتأول أن يدعي معارضة المعقولات للسمعيات، ونحن قد بينا أن هذه الحجة ليست من المعقول بسبيل؛ بل هي مع كونها سمعية لفظية، فهي دعوى مجردة؛ بل كاذبة، كما سنبينه.
الوجه السادس: أن يقال له: هذا الحد الذي ذكرته في «الجود» حين قلت: «إن من جاد ليشرف وليحمد، وليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد». فهذا التفسير عمن نقلته؟! ومن ذكره من أهل التفسير للنصوص، أو من أهل اللغة العربية، بل من سائر لغات الأمم، وإن كان ذلك لا ينفعه، إن لم يبين معنى هذا اللفظ العربي في لغة العرب؛ ومن المعلوم أن هذا لم يقله أحد من أهل العلم بالنصوص الشرعية، واللغة العربية، فصار ذلك افتراء على النصوص واللغة.
[ ص: 525 ] الوجه السابع: أن يقال: وكلاهما مع كونه خلاف الأصل، إنما يكون إذا ثبت استعمال اللفظ في المعنى مجردا. فكيف وأصل الاستعمال منتف؟. اسم الجواد يقال: على كثير من المخلوقين، مع انتفاء هذه المعاني عنهم، فلو كان هذا المعنى داخلا في هذا الاسم، لم يصح إطلاقه على مخلوق إلا مجازا أو بطريق الاشتراك،
الوجه الثامن: أن يقال: الـمعروف في الشرع واللغة والعقل، أن الذي يفعل أو يفيد ما ينبغي لا لمقصود أصلا عابث، وإن كان لا لمقصود يعود إلى نفسه فهو سفيه أو جاهل، وكلاهما مذموم في الشرع والعقل؛ بل يستحق في الشرع أن يحجر عليه، وهو من أسوأ المبذرين حالا؛ فإن من المبذرين من يبذل المال لأغراض محرمة، وإن كان فيها ما هو مقصود له، فأما من يبذل ما ينبغي لا لمقصود أصلا، فهذا إن كان موجودا فهو مذموم. واسم «الجود» في الشرع واللغة والعقل اسم مدح، فيستحيل أن يفسر بما لا يكون عند الناس إلا مذموما.
بل يقال في الوجه التاسع: هذا المسمى لا يعرف وجوده أصلا، فليس في الموجودات ما يفيد وينفع لا لمقصود أصلا، حتى الحركات الطبيعية، لحركتها منتهى ومستقر، هو منتهى ميلها، ويسمى ميلها إرادة، وقد جعلوه هم عشقا لذلك الكمال. وإذا كان هذا المسمى معدوما، والاسم معروفا في الشرع واللغة لأعيان موجودة. امتنع أن يكون مسماه ما ذكره.
[ ص: 526 ] بل يقال في الوجه العاشر: إن ما ذكره ممتنع لذاته، فإنـه بتقديرنا يفعل لعلة غائية لا لمقصود غائي، كتقدير ما يحدث لا عن علة فاعلة، وكل منهما ممتنع لذاته، ولهذا هم يسلمون أن ليس في الموجودات ما هو كذلك، إلا ما يذكرونه في واجب الوجود، وهم متناقضون في ذلك: فيصرحون تارة بأنه يفعل لقصد منه للغاية ورحمة منه، وتارة يقولون: ليس له إرادة ولا قصد. وإذا كانوا متناقضين في ذلك، تبين أن أحدا من العقلاء لم يستقر قوله على إثبات موجود بهذه الصفة التي سموها «جوادا».
الوجه الحادي عشر: أن يقال: الجود إفادة ما ينبغي لا لغرض. هو كلام مجمل يحتمل الحق والباطل؛ بل الظاهر منه [ ص: 527 ] للناس هو الحق الذي لم يرده؛ فإنه يقال لك: العوض المعروف في الشرع، واللغة والعرف والعقل، هو ما يبذله أحد المتعاوضين للآخر، في مقابلة ما بذله الآخر له، كثمن المبيع، وأجرة الأجير، وثواب الهدية، ومكافأة النعمة ونحو ذلك، فلا ريب أن من أعطى غيره عطية، ليعطيه ذلك الغير عوضها، فهذا مستعيض وليس بجواد؛ ولهذا يفرق الفقهاء بين عقود المعاوضات، والتبرعات بنحو هذا الفرق؛ ولهذا قال المخلصون: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [الإنسان: 9] فأخبروا أنهم لا يريدون من المنعم عليهم لا جزاء ولا شكورا، ولم يقولوا: لا نريد ذلك من أحد، لا من الله ولا من غيره؛ فإن هذا إما ممتنع وإما سفاهة، ولهذا كان المحققون للإخلاص لا يطلبون من المحسن إليه لا دعاء ولا ثناء ولا غير ذلك، فإنه إرادة جزاء منه؛ فإن الدعاء نوع من الجزاء على الإحسان والإساءة؛ كما جاء في الحديث: وقال الشاعر: «من أسدى إليكم [ ص: 528 ] معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه»
ارفع صغيرك لا يحر بك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فهذا أو نحوه غاية ما يقدر من الجود المعروف، فأما جود أهل الجاهلية ونحوهم، ممن يقصد به الثناء عليه، ولو بعد موته فذاك دون هذا.
وأيضا فإن الإنسان قد يحب بنفسه فعل الخير والإحسان، ويتلذذ بذلك لا لغرض آخر، بل يتلذذ بالإحسان إلى الغير، كما يتلذذ الإنسان بلذاته المعروفة وأشد، وإن لم يصل إليه نفع غير لذته بالإحسان، كما أن النفوس الخبيثة قد تلتذ بالإساءة والعدوان، وإن لم يحصل لها بذلك جلب منفعة ولا دفع مضرة. فهذا أيضا موجود وصاحبه من أهل الإحسان والجود، فإما أن يكون في الوجود من يفعل لا لمعنى فيه ولا لمعنى في غيره، فهذا لا حقيقة له أصلا، وقد علم أن أهل الشرع واللغة وسائر العقلاء الذين يقولون: الجود إفادة ما ينبغي [ ص: 530 ] لا لعوض أصلا. إنما يريدون به عوضا يكون في مقابلة العطية، إما من المعطى أو ممن يقوم مقامه، كمن يبذل لغيره مالا ليعتق عبده، أو يخلع امرأته أو يفك أسيره.
وبالجملة فالعوض الذي ينافي الجود، يشترط فيه أمران:
أحدهما: أن يقصده المعطي، والثاني: أن يقصده من المعطى أو ممن يقوم مقامه. فأما من طلب العوض من الله تعالى، أو أحسن للتذاذه هو بالإحسان، فهذا لا ينافي الجود باتفاق العقلاء؛ بل لو طلب الثناء من العباد ونحوهم، لم يمتنع أن يسميه الناس جوادا، كما سموا حاتما وغيره من أهل الجاهلية بالجود، وإن كانوا قد يقصدون السمعة والثناء في الخلق.
الوجه الثاني عشر: قوله: «ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد». وهذا فيه من الإجمال ما تقدم؛ فإن معنى العوض، الذي يمنع الجود في الشرع واللغة والعرف وعقول جميع الآدميين، أخص من العوض الذي ادعاه، فقوله: «وليس العوض كله عينا، بل وغيره حتى الثناء [ ص: 531 ] والمدح والتخلص من المذمة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي» فيقال له: لا نسلم أن من أعطى لينال حمد الله وثناءه عليه، والتخلص من ذم الله تعالى له لا يكون جوادا؛ بل هذا جواد باتفاق الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله المؤمنين، وسائر أهل السموات وأهل الأرضين. وكذلك من وهب ليكون ذلك أقرب إلى الله تعالى، وأحسن له عنده، وأعلى لدرجته، أو ليكون عند الله على ما ينبغي، فلا نسلم أن هذا ليس بجواد. وكذلك أهل كل لغة، سواء كانوا مسلمين أو كفارا؛ من وهب لينال ما هو عندهم أحسن وأعلى، ولينال الحمد والثناء من الجناب الأعلى، لشيء يليق به عندهم أن يطلب منه الحمد والثناء، فهو جواد عندهم. فقوله: «من جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد» ليس بمسلم، ولا دليل عليه.
بل يقال في الوجه الثالث عشر: هذا جواد باتفاق العقلاء من جميع الأمم، وهذا هو المجود، قال تعالى: [ ص: 532 ] إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [الإسراء: 7] وقال: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [فصلت: 46] وقال وما تقدموا لأنفسكم من خير [البقرة: 110] وقال: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه [آل عمران: 115] وقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7-8] وقال: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [النساء: 40] وقال: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل [البقرة: 265] وقال: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء [البقرة: 261] وقال: وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [الروم: 39] ويروى عن أو غيره أنه قال: ما أحسنت إلى أحد، وما أسأت إلى أحد؛ إنما أحسنت إلى نفسي، وأسأت إلى نفسي. وعمل ذلك لأجل الله تعالى نهاية المطلوب كما قال كل من [ ص: 533 ] الرسل: علي وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [الشعراء: 109] وقال: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل: 17-21].
الوجه الرابع عشر: أن وإن كان قد جاء بمعناه أسماء أخرى، كالكريم، والأكرم، والوهاب، وما يستلزم هذا المعنى كالرحمن والرحيم، والرب وغير ذلك، لكن هذا الاسم جاء ذكره في الحديث الإلهي، حديث هذا الاسم بعينه لم يجئ في أسماء الله تعالى، التي في القرآن ولا في الأحاديث المشهورة في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله، وقد رواه أبي ذر لكن هذا الاسم جاء في رواية مسلم [ ص: 534 ] الترمذي فيه: وابن ماجه وروى «يقول الله تعالى: يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط، إذا غمس في البحر غمسة واحدة، وذلك أني جواد ماجد، عطائي كلام، وعذابي كلام؛ إنما أمري إذا أردت شيئا، أن أقول له كن فيكون» هناد بن [ ص: 535 ] السري، عن أبي معاوية، عن حجاج، عن سليمان بن سحيم، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال [ ص: 536 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال أهل العلم: الجواد في كلام العرب معناه الكثير العطاء، يقال منه: جاد الرجل يجود جودا فهو جواد. قال «إن الله جواد يحب الجود» [ ص: 537 ] الجواد الكريم، تقول العرب فرس جواد. إذا كان غزير الجري، ومطر جواد، إذا كان غزيرا، قال عنترة: أبو عمرو بن العلاء:
جادت عليها كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
الوجه الخامس عشر: أن وإن كان قد قيل، هو بمعنى كونه كريما، فالاسم «الكريم» يتناول معاني منها الجود؛ فإن فيه معنى الشرف والسؤدد، ومعنى الحلم، وفيه معنى الإحسان. تسمية الرب سبحانه وتعالى جوادا،
ومن تأمل مقالات أهل الفلسفة والكلام، ومن يضاهيهم في هذا الأصل، وجدهم عامتهم مضطربين فيه، كل منهم وإن [ ص: 539 ] أثبت نوعا من الحق واعتصم به، فقد كذب بنوع آخر من الحق فتناقض، وأكثر عقول الناس تبخس دون تأمل هذا؛ إذ أحدهم يرى نفسه، إما أن يقول حقا، ويقول ما ينقضه، أو يقول حقا ويكذب بحق آخر، وتناقض القولين باطل، والتكذيب بالحق باطل، والحق الصريح لا يرى قلبه يستطيع معرفته، كما لا يستطيع أن يحدق بصر عينيه في نور الشمس؛ بل كما لا يستطيع الخفاش أن يرى ضوء الشمس. وقد قال تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج: 46].
والمقصود هنا بيان تناقض الدهرية، وفساد حجتهم.