وهذا يتقرر بالوجه التاسع عشر: وهو أن هؤلاء المنازعين له الذين ينتصر لهم المؤسس يقولون إنه تجوز رؤيته، بل يجوزون كونه مدركا بإدراك اللمس بل يجوزون كونه مدركا بغير ذلك من الحواس، مع قولهم إنه ليس فوق العرش ولا يمكن أن يكون مشارا إليه بالحس ولا يمكن أن يحس به، لا ريب أنهم متناقضون في ذلك غاية التناقض، فإن من المعلوم أن إدراك اللمس به أبعد من كونه مشارا إليه بالحس أو كونه في جهة فإن لمس الإنسان قائما بذاته التي هي في جهة معينة، فإدراكه الشيء بلمسه يقتضي من الاتصال به والملاصقة وكونه في جهة من اللامس وغير ذلك ما لا يقتضيه مجرد كونه ترفع إليه الأيدي أو الأعين، فإن من المعلوم أنا نشير إلى كل شيء من الموجودات التي نراها، ومع هذا فلا يمكننا أن نلمس منها إلا بعضها فإذا جاز كونه باللمس فلأن يجوز كونه مشارا إليه باليد والعين أولى وأحرى.
[ ص: 574 ] وكذلك كل ما يلمسه فلا يكون إلا في جهة، وكثيرا ما يكون الشيء في جهة ولا يمكننا لمسه، كما قال فكيف يجوز إثبات لمسه مع منع كونه في جهة؟ أليس هذا تناقضا محضا؟ بل هذا نفي الشيء مع إثبات ما هو أبلغ منه، وتحريم الشيء مع استحلال ما هو أعظم منه، يستفتوني في دم البعوضة، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! بل، كما قال تعالى: ابن عمر: قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله [البقرة 217] وهو بمنزلة من يقول إن الله لا يرى ولكن يصافح ويعانق!
وكذلك قولهم إنه يرى وقولهم إنه يتعلق به إدراك اللمس مع قولهم لا يمكن أن يحس به تناقض ظاهر، وإذا كان ذلك تناقضا منهم - ومن المعلوم أن - فتكون صحتها مستلزمة لكونه يحس، وذلك مستلزم لبطلان ما [ ص: 575 ] قالوه في هذه المسألة. مسألة الرؤية ثابتة بالنصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع سلف الأمة وأئمتها
فإن قيل: دليلهم العقلي في الرؤية ضعيف. قيل: لا نسلم أنه ضعيف. ثم إن كان ضعيفا فليس هو بأضعف مما ذكروه في هذه المسألة؛ فإن كان أضعف ظهر تناقضهم في النفي والإثبات في هاتين المسألتين .