كما نقول إن الشمس منقسمة يعني أن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر، والفلك منقسم بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي، وهذا هو الذي أراده فهذا مما يتنازع الناس فيه. وإن قال أريد بالمنقسم أن ما في هذه الجهة منه غير ما في هذه الجهة
فيقال له قولك إن كان منقسما كان مركبا، وقد تقدم إبطاله وتقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبا وتبين [ ص: 441 ] أنه لا حجة أصلا على امتناع ذلك بل تبين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود، ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه، وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والحيز والغير والافتقار من الإجمال، وأن المعنى الذي يقصدونه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبا أو ممكنا، وأن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة، وتبين أن كل أحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وأنه ألزم الفلاسفة مثل ذلك.
فقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسما أو مركبا بهذا [ ص: 442 ] الاعتبار فإنه لا يكون واحدا ولا يكون أحدا، فإن الأحد هو الذي لا ينقسم خلافا لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدا كقوله: وإن كانت واحدة فلها النصف [النساء 11] وقوله: ذرني ومن خلقت وحيدا [المدثر 11] ونحو ذلك.
وتحرير هذا المقام هو الذي يقطع الشغب والنزاع، فإن هذه الشبهة من أكبر أو وهو عند التحقيق من أفسد الخيالات ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الإشراك قد ضل به كثير من الناس، كما قال أكبر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته، الخليل: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس [إبراهيم 35-36] [ ص: 443 ] وإذا شرح الله صدر العبد للإسلام يتعجب غاية العجب ممن ضل عقله حتى أشرك كما روي أن بعض الناس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما كان لهم عقول؟! يعني لمشركي قريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كانت لهم عقول أمثال الجبال ولكن كادها باريها، وروي أن [ ص: 444 ] لما هدم العزى وكانت عند خالد بن الوليد عرفات، قال: يا رسول الله، عجبت من أبي وعقله كان يجيء إلى هذه العزى فيسجد لها وينسك لها ويحلق لها رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك عقول كادها باريها. ولهذا يعترف المشركون بالضلال يوم القيامة، كما قال تعالى: فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون [الشعراء 94-99]، قال تعالى عن قوم [ ص: 445 ] عاد الذين كانوا من أعظم بني آدم : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [الأحقاف 26].
وهذه الشبهة وإن تنوعت عباراتها هي التي ذكرها الأئمة أنها أصل كلام الجهمية كما ذكر حيث قال: وكذلك الإمام أحمد؛ وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل الجهم خراسان من أهل الترمذ [ ص: 446 ] وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك! فكان مما كلموا به الجهم، أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم نعم؛ فقالوا: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، [ ص: 447 ] قالوا: فشممت له رائحة، قال: لا، قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير جهم: فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى؛ ذلك أن زنادقة [ ص: 448 ] النصارى يزعمون أن الروح التي في الجهم عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار.