فإن قيل: وأتباعه لم يذكروا هذا، قيل له سببان: «فابن فورك»
أحدهما: أن هذا الكتاب ونحوه، صنفه ببغداد في آخر عمره، لما زاد استبصاره في السنة، ولعله لم يفصح في بعض الكتب القديمة، بما أفصح به فيه وفي أمثاله، وإن كان لم ينف فيها ما ذكره هنا في الكتب المتأخرة، ففرق بين عدم القول وبين القول وبين القول بالعدم، و قد ذكر فيما صنفه من أخبار «ابن فورك» تصانيفه قبل ذلك، فقال: «الأشعري» من مذاهب «أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري» المعتزلة، إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة، بالحجج العقلية، وصنف في ذلك الكتب، وهو بصري من أولاد «انتقل الشيخ فلما وفقه الله لترك ما كان عليه من بدع [ ص: 144 ] «أبي موسى الأشعري» المعتزلة، وهداه إلى ما نشره من نصرة أهل السنة والجماعة، ظهر أمره وانتشرت كتبه بعد الثلاثمائة، وبقي إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة» قال: «فأما أسامي كتبه مما صنفه إلى سنة عشرين وثلاثمائة فإنه ذكر في كتابه الذي سماه «الصمد» في الرؤية أسامي أكثر كتبه» فذكر الفصول والموجز وغيرهما.
ثم قال: «وقد عاش بعد ذلك إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وصنف فيها كتبا» ذكر منها أشياء.
قال «ابن عساكر» بعد أن ذكر كلام «هذا آخر ما ذكره «ابن فورك»: من تصانيفه، وقد وقع إلي أشياء [ ص: 145 ] لم يذكرها في تسمية تواليفه، فمنها رسالة «الحث في البحث» ورسالة «الإيمان» وهل يطلق عليه اسم الخلق؟، وجواب «مسائل كتب بها إلى أهل الثغر» في تبيين ما سألوه عنه، من مذاهب أهل الحق». «ابن فورك»
وذكر عن «عزيز بن عبد الملك» القاضي، قال: «سمعت من أثق به. قال: رأيت تراجم كتب الإمام فعددتها أكثر من ثمانين وثلاثمائة مصنف». «أبي الحسن»
السبب الثاني: وذويه كانوا يميلون إلى النفي في مسألة الاستواء ونحوها، «ابن فورك» وقد ذكرنا فيما نقله هو من ألفاظ أن وهو من المثبتين كذلك كيف تصرف في كلامه، تصرفا يشبه تصرفه في ألفاظ النصوص الواردة في إثبات ذلك، [ ص: 146 ] كما فعله في كتابه «تأويل مشكل النصوص» فكان هواه في النفي يمنعه من تتبع ما جاء في الإثبات، من كلام أئمته وغيرهم، وكذلك فيما نقله من كلام «ابن كلاب» كيف زاد فيه ونقص، مع أن المنقول نحو ورقتين، فلعله أيضا قد عمل ذلك فيما نقله من كلام «الأشعري» إذ لم نجد نحن نسخة الأصول التي نقل منها، حتى نعلم كيف فعله فيها، وفيما نقله تحريف بين، لكن مأخذه في ذلك، مأخذ من ينسب فتاويه وعقائده إلى السنة والشريعة النبوية، لظنه أن هذا هو الحق الذي لا تأتي بخلافه، فكذلك هو يظن أن ما زاده ونقصه يوجبه بعض أصول «ابن كلاب» و «ابن كلاب»
«الأشعري»، وإلا كان فيما ظهر من كلامهما خلافه، وهذا أصل معروف لكثير من أهل الكلام والفقه، يسوغون أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبة قولية، توافق ما اعتقدوه من شريعته، حتى يضعوا أحاديث توافق ذلك المذهب، وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن من هؤلاء، وإنما هو من الطبقة الثانية، الذين ينسبون إلى الأئمة ما يعتقدون هم أنه الحق، فهذا واقع في كثير من طائفته، حتى أنه في زماننا في بعض المجالس المعقودة، قال كبير القضاة: إن مذهب [ ص: 147 ] «ابن فورك» المنصوص عنه كيت وكيت، وذكر القول الذي يعلم هو وكل عالم أن الشافعي لم يقله، ونقل القاضيان الآخران عن الشافعي و «أبي حنيفة» مثل ذلك، فلما روجع ذلك القاضي قيل له: هذا الذي نقلته عن «مالك» من أين هو؟ أي: أن الشافعي لم يقل هذا. فقال: هذا قول العقلاء، الشافعي عاقل لا يخالف العقلاء، وقد رأيت في مصنفات طوائف من هؤلاء، ينقلون عن أئمة الإسلام المذاهب التي لم ينقلها أحد عنهم، [ ص: 148 ] لاعتقادهم أنها حق، فهذا أصل ينبغي أن يعرف، ومن أسباب ذلك أيضا أن والشافعي ليس له كلام كثير منتشر في تقرير مسألة «العرش» ، والمباينة للمخلوقات، كما كان «لابن كلاب» إمامه، وذلك لأنه تصدى للمسائل التي كان المعتزلة تظهر الخلاف فيها، كمسألة الكلام والرؤية، وإنكار القدر والشفاعة في أهل الكبائر ونحو ذلك، وأما العلو فلم يكونوا يظهرون الخلاف فيه إلا لخاصتهم، لإنكار عموم المسلمين لذلك، وإنما كان سلف الأمة وأئمتها يعلمون ما يضمرون من ذلك بالاستدلال، «الأشعري» تصدى لرد ما اشتهر من بدعهم، فكان إظهار خلافهم في القرآن والرؤية من شعار مذهبه، التي لم يتنازع فيها أصحابه، وإن كانوا قد يفسرون ذلك بما يقارب قول المعتزلة، بخلاف ما لم يكونوا يظهرون مخالفته، فإنه كان أدخل في السنة وأعظم في الأمة وأثبت في الشرع والعقل، مما أظهروا مخالفته، حتى أن فضلاء الفلاسفة «فالأشعري» يحكون [ ص: 149 ] «كأبي الوليد بن رشد» مع أن مذهبهم تفسير الرؤية بزيادة العلم، وأن القرآن خلقت حروفه في النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فلم يتصد مذهب الحكماء إثبات العلو فوق المخلوقات، لردهم ردا، يشتهر عن «الأشعري» المعتزلة إظهار الخلاف فيه، وبيان تناقضهم فيه، فلذلك لم يكن خلافهم فيه من شعائر مذهبه، بل يوافقهم في أصول، قال بعض متبعيه: فبما أنها مستلزمة نفي العلو على العرش، وإن كان وأئمة أصحابه لم يقولوا ذلك، وقد علم أهل المعرفة والعقل والبصيرة; أن تلك الأصول، التي وافقهم عليها، أقوى استلزاما لقولهم فيما أظهر فيه منها، لما لم يشتهر عنه خلافهم فيه، ولهذا صار جمهور الناس من المثبتة والنافية، يعدون ما عليه هؤلاء المثبتين للرؤية والكلام وغير ذلك، مع نفي العلو على العرش من أعظم الناس تناقضا في الشريعة والسنة وفي العقول والقياس، ولهذا من حقق منهم «الأشعري» «كالرازي» وأمثاله، يميلون في الباطن إلى النفي في مسألة الرؤية أيضا وغيرها. [ ص: 150 ]