(ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة الجهمية وما ادعته من أمور [ ص: 195 ] الفلاسفة ، ولم نقف فيها إلا على التعطيل البحت، وأن قطب مذاهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم: أن الفلك دوار، والسماء خالية، وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء، ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات، وذهابا عن التحقيق، وأن قولهم سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قادر بلا قدرة، إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة؛ ثم قالوا: لا حياة له، ثم قالوا: لا شيء، فإنه لو كان شيئا لأشبه الأشياء، حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء، إذ قالوا: الباري لا صفة، ولا لا صفة. خافوا على قلوب ضعفى المسلمين [ ص: 196 ] وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم؛ إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن، وإن كان اعتصاما به من السيف واجتنانا به منه؛ وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين: ويحملون الطيالسة، فأفصحوا بمعانيهم، وصاحوا بسوء ضمائرهم، ونادوا على خبايا نكثهم، فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء، وألسن العلماء، وهجران الدهماء، فقد شحنت "كتاب تكفير طوايا كلام الجهمية " من مقالات علماء المسلمين فيهم، ودأب الخلفاء فيهم، ودق عامة أهل السنة عليهم، وإجماع المسلمين [ ص: 197 ] على إخراجهم من الملة، فعلت عليهم الوحشة، وطالت عليهم الذلة، وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم، ويصبغوا كلامهم صبغا يكون ألوح للأفهام، وأنجع في العوام من أساس أوليهم، يجدوا بذلك المساغ ويتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخازيق تراءى للغبي بغير ما في الحشايا، ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنحل ألقاب الحكمة.
يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة [المائدة: 64 ] فينكرون الغل وينكرون اليد، فيكونون أسوأ حالا من اليهود؛ لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى العيب، واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب.
ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه [ ص: 198 ] فيقولون: لا يكون في المخلوق إلا المخلوق، فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة، فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على أولئك: قالوا -قبح الله مقالتهم- إن الله موجود بكل مكان، وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان، ولا يوصف بأين، وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم -رضي [ ص: 199 ] الله عنه-: "أين الله"؟ وقالوا: هو من فوق كما هو من تحت، لا يدرى أين هو، ولا يوصف بمكان، وليس هو في السماء، وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحد، وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاما، وهؤلاء يقولون: تكلم مرة فهم متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم يقولون ليس هو في مكان.
ثم قالوا: ليس له صوت، ولا حرف. وقالوا هذا ثاج وورق، وهذا صوف وخشب، وهذا إنما قصد به النقش، وأريد به النفس، وهذا صوت القارئ. أما ترى منه حسنا وغير حسن، وهذا لفظه أوما تراه مجازا به، حتى قال رأس [ ص: 200 ] رؤوسهم أو يكون قرآن من لبد؟ وقال آخر من خشب، فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن، والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك. ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم: القرآن غير موجود. لفظته الجهمية الذكور بمرة، والأشعرية الإناث بعشر مرات.
[ ص: 201 ] وأولئك قالوا: لا صفة، وهؤلاء يقولون: وجه، يقال: وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث. وعين لعين المتاع. وسمع كأذن الجدار. وبصر كما يقال: جداراهما يتراءيان. ويد كيد المنة والعطية. والأصابع كما يقال: خراسان هي أصبع الأمير. والقدمين كقولهم: جعلت الخصومة تحت قدمي. والقبضة: كما قيل: فلان في قبضتي أي أنا مالك أمره. [ ص: 202 ] وقال: الكرسي: العلم. والعرش الملك. والضحك: الرضا. والاستواء: الاستيلاء. والنزول: القبول. والهرولة مثله فشبهوا من وجه، وأنكروا من وجه، وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر، وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا، ولم يبقوا موجودا.
ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة، فقالوا: لا نفسرها، نجريها عربية كما وردت، وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة. أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابا عنها، وأعيا ذهابا منها، ليكونوا أوحش عند ذكرها، وأشمس عند سماعها، وكذبوا؛ بل التفسير أن يقال: وجه، ثم لا يقال كيف. وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين. فأما العبارة فقد قال الله: وقالت اليهود يد الله مغلولة [المائدة: 64 ] وإنما قالوها [ ص: 203 ] بالعبرانية فحكاها الله عنهم بالعربية، وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته، فيعبر بالألسنة عنها، ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له -رضي الله عنه- بالعربية. والله تعالى يدعى بكل لسان باسمه فيجيب، [ ص: 204 ] ويحلف بها فيلزم، وينشد فيجاز، ويوصف فيعرف. زيد بن ثابت