وينبغي أن يعلم الدهرية على الجهمية شيئان (أحدهما ) ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة، ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي يفسر بها خصومهم أو غيرهم. و (الثاني ) مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإنهم لما شاركوهم فيما شاركوهم في بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها، كما احتج به هذا الفيلسوف، وكما يذكره أن الذي سلط هؤلاء أبو عبد الله الرازي ومن قبله: حتى إن الدهرية قالوا لهم: القول في آيات المعاد كالقول في آيات [ ص: 72 ] الصفات فكان من حجتهم عليهم، وضموا ذلك إلى ما قد يطلقونه من الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، فقالوا له: أنت تقول: الظواهر لا تفيد القطع أيضا، والآيات المتشابهة في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني، ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون أيضا تأويل الآيات الواردة ها هنا؟ فقال: نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين؛ ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات ولم يقل أحد أنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق. المعاد البدني،
فلينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون: نحن نعلم الإخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة، فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه؛ لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر، فعدلوا إلى ما ذكروه من أنا نعلم بالاضطرار إخبارهم بالمعاد الجسماني. فإن هذا الذي قالوه [ ص: 73 ] صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني؛ لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك بالقرآن وبالأخبار وإجماع السلف.
وأيضا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين: نحن نعلم أيضا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة، وقول بعضهم إنه لم يقل أحد إن هذا معلوم بالضرورة من دينهم ليس كذلك؛ بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة، وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول، ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية.
فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم: فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر؟ قيل لهم فلهذا كان السلف والأئمة مطبقين على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورا معلوما بالاضطرار لعموم المسلمين [ ص: 74 ] حتى قبل العلم بالإيمان فيما بعد، وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق.
[ ص: 75 ] ويقال لهم: قول أهل الإثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان، ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك؛ فإن أبا عبد الله الرازي قال في كتابه الكبير "نهاية العقول" في مسألة التكفير لما بحد حد الكفر (وهو تكذيب الرسول في شيء مما [ ص: 76 ] جاء به ) قال: (ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب. فأورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لا يجعل من المكذبين، بل يجعل المكذب من يرد قوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل. وإما أن يجعل [من ] المكذبين. فإن كان الأول لزمنا أن لا يكون أبي حامد الغزالي الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارا؛ لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه؛ لأنهم يحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الجزئيات على وجه كلي، ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها [ ص: 77 ] وشقاوتها بعد المفارقة قالوا: إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها التي هي أمور جسمانية فلم لا يجوز مثلها في الحشر والنشر فثبت أنا لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لا نجعل الفلاسفة من المكذبين، وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لا يكونوا كفرة؛ لأن العكس واجب في الحد فأما إن جعلنا صاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة، وكل ذلك باطل، بل يجب أن تجعل [ ص: 78 ] [بعض ] التأويلات غير موجبة للتكذيب، وبعضها موجبة، وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبا، وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مفيد ). ليس كل متأول مكذبا،
وقال في الجواب عن هذا (إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم، وإثبات العلم بالجزئيات، وإثبات الحشر والنشر، وأن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه. ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل ما يخالف دينه فهو كفر. فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرا، فمن اعتقدها كان مكذبا له عليه السلام، فكان كافرا، ومثل هذه الطريق لم توجد في التشبيه والقدر؛ لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما [ ص: 79 ] مخالف لدينه عليه السلام. فالحاصل أنا لا نكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر، بل للإجماع على الوجه المذكور، ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة، فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة ). هذا كلام أبي عبد الله الرازي.