فهذا متضمن إجماع المسلمين، ويتضمن أن ذلك من المعروف في فطرتهم التي فطروا عليها. وقوله: من عظم الرب، كلمة سديدة؛ فإن اسمه العظيم يدل على العظم الذي هو قدره كما بيناه في غير هذا الموضع. الإمام أحمد وذكر الأحشاش والأجواف؛ لأن علم المسلمين بذلك ببديهة حسهم وعقلهم، ولأن في ذلك ما يجب تنزيه الرب عنه؛ إذ كان من أعظم كفر النصارى دعواهم ذلك في واحد من البشر؛ فكيف من يدعيه في البشر كلهم؟ وكذلك ما ذكره من أجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة، فإن هذا كما تقدم مما يعلم بالضرورة العقلية الفطرية أنه يجب تنزيه الرب وتقديسه، أن يكون فيها أو ملاصقا لها أو مماسا. الذي ذكره
[ ص: 80 ] وتخصيص هذه الأجسام القذرة والأجواف بالذكر فيه اتباع لطريقة القرآن في الأمثال والأقيسة المستعملة في باب صفات الله سبحانه؛ فإن ونحوه من الأئمة هم في ذلك جارون على المنهج الذي جاء به الكتاب والسنة، وهو المنهج العقلي المستقيم، فيستعملون في هذا الباب قياس الأولى والأحرى. والتنبيه في باب النفي والإثبات، الإمام أحمد وبهذا جاء القرآن في مثل قوله: فما وجب إثباته للعباد من صفات المدح والحمد والكمال فالرب أولى بذلك، وما وجب تنزيه العباد عنه من النقص والعيب والذم، فالرب سبحانه أحق بتنزيهه وتقديسه عن العيوب والنقائص من الخلق، ضرب لكم مثلا من أنفسكم [الروم: 28] وفي مثل قوله: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [الزخرف: 17] وغير ذلك، فإنه احتج على نفي ما يثبتونه له من الشريك والولد بأنهم ينزهون أنفسهم عن ذلك؛ لأنه نقص وعيب عندهم، فإذا كانوا لا يرضون بهذا الوصف ومثل السوء، فكيف يصفون ربهم به ويجعلون لله مثل السوء؟! بل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء، ولله المثل الأعلى، ومما يشبه هذا في حقنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولهذا شبه الله من ذمه [ ص: 81 ] بالحمار تارة وبالكلب أخرى. "ليس لنا مثل السوء"
والأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة كالتي تسمى "أقيسة منطقية، وبراهين عقلية" ونحو ذلك استعمل سلف الأمة وأئمتها منها في حق الله سبحانه وتعالى ما هو الواجب، وهو ما يتضمن نفيا وإثباتا بطريق الأولى؛ لأن الله تعالى وغيره لا يكونان متماثلين في شيء من الأشياء، لا في نفي، ولا في إثبات؛ بل ما [ ص: 82 ] كان من الإثبات الذي ثبت لله تعالى ولغيره، فإنه لا يكون إلا حقا متضمنا مدحا وثناء وكمالا، والله أحق به ليس هو فيه مماثلا لغيره، وما كان من النفي الذي ينفى عن الله وعن غيره، فإنه لا يكون إلا نفي عيب ونقص، والله سبحانه أحق بنفي العيوب والنقائص عنه من المخلوق. فهذه الأقيسة العادلة والطريقة العقلية السلفية الشرعية الكاملة.
فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام من إدخال الخالق والمخلوق تحت قياس شمولي أو تمثيل، يتساويان فيه، فهذا من الشرك والعدل بالله، وهو من الظلم، وهو ضرب الأمثال لله، وهو من القياس والكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف أنه لا يتكلم في "أصول الدين" أو لا يتكلم في "باب الصفات" بالقياس [ ص: 83 ] العقلي قط. وأن ذلك بدعة وهو من الكلام الذي ذمه السلف، وكان هذا مما أطمع الأولين فيهم لما رأوهم ممسكين عن هذا كله إما عجزا أو جهلا، وإما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين. وقال لهم الأولون: ردكم أيضا علينا بدعة؛ فإن السلف والأئمة لم يردوا مثل ما رددتم، وصار أولئك يقولون عن هؤلاء إنهم ينكرون العقليات، وأنهم لا يقولون بالمعقول، واتفق أولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصابئين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة الروم والهند والفرس وغيرهم على ما جعلوه معقولا، يقيسون فيه الحق تارة والباطل أخرى، وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان، أوجب تفرقا واختلافا بين الأمة، ليس هذا موضعه.
وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف. فسلك ودين الإسلام هو الوسط، وهو الحق والعدل، وهو متضمن لما يستحق أن يكون معقولا، ولما ينبغي عقله وعلمه، ومنزه عن الجهل والضلال والعجز، وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع، مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى؛ [ ص: 84 ] وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها وتوعد على ذلك بالعقاب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: الإمام أحمد وهذا مما علم بالاضطرار من دين [ ص: 85 ] الإسلام، وهي مما فطرت القلوب على كراهتها، والنفور عنها، واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة. فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب، الذي يجب تنزيه الرب عنه، لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات، ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة، وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها، ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير. فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له، ويتنزه عن النجاسة كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر، للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عن كل ما ينزه عنه غيره. "تنزهوا عن البول، فإن عامة عذاب القبر منه".