فصل
ثم قال أبو عبد الله الرازي «الثامن: أن خصومنا لا بد لهم من الاعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال; لأن خصومنا في هذا الباب: إما الكرامية وإما الحنابلة، أما الكرامية فإنا إذا قلنا لهم: لو كان الله مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما، فيكون مركبا، وأنتم لا تقولون بذلك، وإما أن يكون غير منقسم، فيكون في الصغر والحقارة، مثل النقطة التي لا تنقسم، ومثل الجزء الذي لا يتجزأ، [ ص: 231 ] وأنتم لا تقولون بذلك، فعند هذا الكلام قالوا: إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف، ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير».
فقوله: «خصومنا في هذا الباب إما الكرامية، وإما الحنابلة» ليس بسديد، لا سيما وهؤلاء الحنابلة الذين وصفهم -إن كان لهم وجود- فهم صنف من الحنابلة الموجودين في وقته أو قبله بأرض خراسان وغيرها، ليسوا من أئمة علماء الحنابلة ولا أفاضلهم، فإن هذه الألفاظ التي حكاها عن الحنابلة لا نعرفها عن أحد منهم كما سنذكره.
وكذلك هؤلاء الكرامية الذين حكى قولهم هم بعض الكرامية، وإلا فكثير من الكرامية قد يخالفونه فيما حكاه عنهم، بل خصومه في هذا الباب جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الدين من الأولين والآخرين، وجميع المؤمنين الباقين على الفطرة الصحيحة -دع ما قد تنازع فيه من ذلك- فإنهم لا يطلقون على الله هذا الإطلاق الذي ذكره، وإن كان فيهم وفي سائر الطوائف من نص بالصفات التي يطلق عليها هو وأمثاله أنها أجزاء وأبعاض، لكنهم يطلقون الألفاظ الموهمة المجملة إلا إذا نص الشرع، فأما ما لم يرد به الشرع فلا يطلقونه إلا إذا تبين معناه الصحيح الموافق للشرع، ونفي [ ص: 232 ] المعنى الباطل، وفي لفظ الأجزاء والأبعاض إجمال وإيهام كما سنذكره إن شاء الله، وما علمت أحدا من الحنابلة من يطلقه من غير بيان، بل كتبهم مصرحة بنفي ذلك المعنى الباطل، ومنهم من لا يتكلم في ذلك بنفي ولا إثبات.
فلا ريب أن الكتب الموجودة بأيدي الناس، تشهد بأن جميع السلف من القرون الثلاثة كانوا على خلاف ما ذكره، وأن الأئمة المتبوعين عند الناس والمشايخ المقتدى بهم، كانوا على خلاف ما ذكره، وهذه أئمة المالكية، والشافعية، والحنفية، وأهل الحديث، والصوفية على ذلك، بل أئمة الصفاتية من الكلابية [ ص: 233 ] والكرامية والأشعرية على خلاف ما قاله، فهذه كتب إمام طائفته، ثم ابن كلاب الحارث المحاسبي ونحوه، ثم وأئمة أصحابه مثل أبي الحسن الأشعري، أبي عبد الله بن مجاهد [ ص: 234 ] وأبي الحسن الطبري، وأبي العباس القلانسي، وغيره -كما سيأتي إن شاء الله حكاية قوله وقول غيره- والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وغيرهم، كلهم وأبي علي بن شاذان -كما قد حكينا بعض أقوالهم في جواب الاستفتاء، وفي جواب هذه المسائل الموردة عليه، وذكرنا أن يقولون بإثبات العلو لله على العرش واستوائه عليه دون ما سواه، ويضللون من يفسر ذلك بالاستيلاء والقهر ونحوه ذكر أن هذا قول جميع أهل السنة والحديث، وبه يقول أبا الحسن الأشعري الرازي، وهو قد حكى أيضا في كتبه ذلك عن بعض أئمة أصحابه، وذكر نفسه قولين، وقد تكلمنا على ذلك. فكيف يزعم أن خصومه إنما هم [ ص: 235 ] للأشعري الكرامية والحنابلة! بل لم يوافقه إلا فريق قليل من أهل القبلة.
حتى حذاق الفلاسفة فإنهم من خصومه في هذا الباب، كما ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف، مع فرط اعتنائه بالفلسفة، وتعظيمه لها، ومعرفته بها، حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه، ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل وذويه، وصنف كتبا متعددة مثل كتاب «تهافت التهافت» في الرد على ابن سينا أبي حامد فيما رده على الفلاسفة في كتاب «تهافت الفلاسفة» وكتاب «تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» وغير ذلك، قال في كتابه الذي سماه «مناهج الأدلة في الرد على الأصولية» وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور. كما جاءت به الشريعة، وبيان ما يقوم عليه من ذلك البرهان، للعلماء، كما يقوم به ما يوجب التصديق للجمهور.