وكذلك قال في "كتاب الإبانة" [ ص: 587 ] له بعد الخطبة: (أما بعد- أبو الحسن الأشعري المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على رأيهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف المتقدمين، فخالفوا رواية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله تعالى بالأبصار، وقد جاءت بذلك الروايات من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار، وتتابعت بها الأخبار، وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين، وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين، وجحدوا عذاب القبر، وأن الكفار في قبورهم يعذبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا: فإن كثيرا من إن هذا إلا قول البشر [المدثر: 25 ] فزعموا أن القرآن كقول [ ص: 588 ] البشر، وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين. أحدهما- يخلق الخير، والآخر- يخلق الشر.
وزعمت "القدرية" أن الله يخلق الخير، وأن الشيطان يخلق الشر، وزعموا أن الله تعالى يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن الله ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وردا لقول الله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله [الإنسان: 30 ] فأخبر الله أنا لا نشاء شيئا إلا قد شاء الله أن نشاءه، ولقوله: ولو شاء الله ما اقتتلوا [البقرة: 253 ] وقوله: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [السجدة: 13 ] وقوله تعالى: فعال لما يريد [البروج: 16 ] ولقوله سبحانه وتعالى خبرا عن شعيب أنه قال: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله [الأعراف: 89 ] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا [ ص: 589 ] قولهم، وزعموا أن للخير والشر خالقين. كما زعمت المجوس، وأنه يكون من الشر ما لا يشاء الله كما قالت المجوس ذلك، وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردا لقول الله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله [الأعراف: 188 ] وانحرافا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه، وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم عز وجل فأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله عز وجل ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى، فكانوا إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقوالهم، ومالوا إلى أضاليلهم، وقنطوا الناس من رحمة الله، وأيسوهم من روح الله سبحانه وتعالى، وحكموا [ ص: 590 ] على العصاة بالنار والخلود، خلافا لقول الله تعالى: مجوس هذه الأمة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48 ] وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها خلافا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله: "إن الله يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا فيها فصاروا حمما" ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 27 ] وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله: تجري بأعيننا [ القمر: 14 ] ولقوله تعالى: ولتصنع على عيني [طه: 39 ] ونفوا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 591 ] من قوله صلى الله عليه وسلم: . قال: (وأنا ذاكر ذلك بابا بابا إن شاء الله تعالى ). إن الله ينزل إلى سماء الدنيا