الوجه الرابع والأربعون: وهو أنه إذا وصف له الملائكة وغيرهم بالوجه واليد ونحو ذلك -مع أنه قد ثبت في الصحيح: وروي [ ص: 362 ] «أنه حمل قرى قوم لوط على ريشة من جناحه» ونحو ذلك من «أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه على صورته التي خلق عليها مرتين، رآه مرة وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما الأفق» مع علمه بأن حقيقتهم ليست مثل حقيقة بني آدم، وأنهم ليسوا لحما ودما وعصبا ونحو ذلك من الأجسام الكائنة الفاسدة. نعم قد يكون الضعيف الخيال منهم يكل خياله عن مثل ذلك، كما يكل حسه عن رؤية الشعاع وعن سماع الصوت القوي ونحو ذلك، ولهذا قال الصفات العظيمة التي توصف بها الملائكة- فإن الوهم والخيال يقبل ذلك، (رضي الله عنه): حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! وقال علي ما من رجل يحدث قوما حديثا [ ص: 363 ] لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. ولهذا سأل بعضهم ابن مسعود: عن حديث زر بن حبيش في صفة جبريل، وأن له ستمائة جناح فلم يحدثه به خوفا أن لا يحتمله عقله فيكذب به. فهذا وأمثاله كثير موجود في بني آدم تضعف قوى إدراكهم عن إدراك الشيء العظيم الجليل; لا كون الوهم والخيال لا يقبل جنس ذلك، ولكن لأجل ما فيه من العظمة التي لم يعتد تصور مثلها. ابن مسعود
ومن هذا الباب عجز الخلق عن رؤية الرب في الدنيا لا لامتناع رؤيته، بل لعجزهم في هذه الحياة. فأما أن يكون بنو آدم ينكرون بوهمهم وخيالهم في جسم مخلوق أن يكون مخالفا لغيره، وأنه يمتنع تماثلهما فليس الأمر كذلك. فكيف ينكرون بوهمهم وخيالهم أن يكون الخالق غير مماثل للمخلوق؟ مع كون الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا جسما أو قائما بجسم.