قلت: والكلام في ذلك من وجهين: أحدهما- أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ، فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة، وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات؛ وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها أحد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين، ولا ربطوا بذلك حكما علميا ولا عمليا، فدعوى المدعي انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أن ما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على ما بينوه؛ بل إما أنهم ما كانوا يعلمون الحق، أو يجوز الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور، كما يقول نحو ذلك من يقوله من [ ص: 251 ] المنافقين من أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولا انتفائه؛ المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية، فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين ما يعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول الدين لزم قطعا تغيير الدين وتبديله؛ ولهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علما وعملا. وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى عليه الدين؛ بل مسألة من مسائل الأمور الطبعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية.
وأيضا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ثم ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض، كإمام المتأخرين من هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه، وقد توقفوا في آخر عمرهم المعتزلة أبي الحسين البصري، وإمام المتأخرين من [ ص: 252 ] الأشعرية أبي المعالي الجويني، وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبد الله الرازي؛ فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته، وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة. قال في المسألة بعينها لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال: (وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم [أن من العلماء من مال ] إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة، فإن إمام الحرمين صرح في كتاب "التلخيص" في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات [ ص: 253 ] العقول. وأبو الحسين البصري هو أحذق المعتزلة توقف فيها، ونحن أيضا نختار [هذا ] التوقف ) فأي ضلال في الدين وخذلان له أعظم من هذا؟ ! !
الوجه الثاني: دعواهم أن هذا قول المسلمين أو قول جمهور متكلمي المسلمين. ومن المعلوم أن هذا إنما قاله أبو الهذيل العلاف ومن اتبعه من متكلمي المعتزلة والذين أخذوا ذلك عنهم.
[ ص: 254 ] وقد نفى الجوهر الفرد من أئمة المتكلمين من ليسوا دون من أثبته؛ بل الأئمة فيهم أكثر من الأئمة في أولئك: فنفاه حسين النجار وأصحابه كأبي عيسى برغوث ونحوه، وأصحابه وضرار بن عمرو كحفص [ ص: 255 ] الفرد ونحوه، ونفاه أيضا هشام بن الحكم وأتباعه، وهو [ ص: 256 ] المقابل لأبي الهذيل، فإنهما متقابلان في النفي والإثبات؛ ونفته الكلابية: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وذووه، ونفاه أيضا طائفة من الكرامية كمحمد بن صابر، ونفاه ابن الراوندي، وليس نفي هؤلاء موافقة منهم [ ص: 257 ] لا للفلاسفة ولا للنظام، بل قول النظام ظاهر الفساد، وكذلك قول الفلاسفة أيضا. وأكثر هؤلاء الذين ذكرناهم من النجارية والضرارية والكلابية والكرامية وغيرهم لا يقولون في ذلك بقول النظام ولا الفلاسفة ؛ ولا يقولون [ ص: 258 ] بإثباته، وذلك أن الفلاسفة قبول الأجسام والحركات والأزمنة الانقسام إلى غير نهاية باطل كما ذكره المثبتون، وكذلك قول مثبتيه باطل بما ذكره نفاته من أنه لا بد من انقسامه، حتى إن دعوى أبا المعالي وغيره اعترفوا بأنه غير محسوس. ومن تدبر أدلة الفلاسفة القائلين بما لا يتناهى من الانقسام [و ] القائلين بوجود الجزء الذي لا يقبل الانقسام وجد أدلة كل واحدة من الطائفتين تبطل الأخرى.