وذكر فيه ما يوجب على طريقته أن لا يصرح به للجمهور، وذكر فيه ما يوجب من الأمور، التي قام عليها البرهان على طريقة ذويه، كما ذكر أنه مع أنه يقول في الباطن، إن الله ليس بجسم. ومع هذا فأثبت الجهة باطنا وظاهرا، وذكر أنه [ ص: 236 ] قول الفلاسفة فقال: لا يصلح في الشريعة، أن يقال: إن الله جسم أو ليس بجسم،
فنقول: إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتم وجودا; ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم. والواجب عندي في هذه الصفة أن يجرى فيها على منهاج الشرع، فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات، ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى: [ ص: 237 ] «فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية، هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق؟ أو هي من المسكوت عنها؟ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 11] وينهى عن هذا السؤال، وذلك لثلاثة معان:
أحدها: أن إدراك هذا المعنى، ليس هو قريبا من المعروف بنفسه، برتبة واحدة ولا رتبتين ولا ثلاث، وأنت تتبين ذلك من الطريق التي سلكها المتكلمون في ذلك، فإنهم قالوا: إن الدليل على أنه ليس بجسم; أنه قد تبين أن كل جسم محدث. وإذا سئلوا عن الطريق التي فيها يوقف على أن كل جسم محدث، سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرناها من حدوث الأعراض، وأن ما لا يتعرى من الحوادث حادث. وقد تبين لك من قولنا إن هذه الطريقة ليست برهانية، ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها.
وأيضا فإن ما يصفه هؤلاء القوم من أنه سبحانه له ذات وصفات زائدة على الذات. يوجبون بذلك أنه جسم أكثر مما ينفون عنه الجسمية، بدليل انتفاء الحدوث عنه، فهذا هو [ ص: 238 ] السبب الأول في أنه لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم.
أما السبب الثاني: فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم. فإذا قيل لهم: إن هاهنا موجودا ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل فصار عندهم من قبيل المعدوم، ولا سيما إذا قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا أسفل، ولهذا اعتقدت الطائفة الذين أثبتوا الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنها معطلة، واعتقدت الذين نفوها في المثبتة أنها مكثرة.
وأما السبب الثالث: فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية، عرضت في الشرع شكوك كثيرة; مما يقال في المعاد وفي غير ذلك، منها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها فرقتان: المعتزلة والأشعرية. فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى أن نفوا الرؤية. وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين فعسر ذلك [ ص: 239 ] عليهم، ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية نومي إلى الوهم الذي فيها عند الكلام في الرؤية.