فصل
قال أبو عبد الله الرازي:
«التاسع: أن أهل التشبيه قالوا: إن العالم والبارئ موجودان، وكل موجودين، فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه. قالوا: والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة. قالوا: والقول بالحلول محال، فتعين كونه مباينا للعالم بالجهة. فبهذا الطريق احتجوا بكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة».
وأهل الدهر قالوا: «العالم والبارئ» موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معا، أو يكون أحدهما قبل الآخر، ومحال أن يكون العالم والبارئ معا، وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث البارئ، وهما محالان، فثبت أن البارئ قبل العالم. ثم قالوا: والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة، وإذا ثبت هذا فتقدم البارئ [ ص: 377 ] على العالم، إن كان بمدة متناهية لزم حدوث البارئ، وإن كان بمدة لا أول لها، لزم كون المدة قديمة، فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان».
فنقول: حاصل هذا الكلام، أن المشبهة زعمت أن مباينة البارئ تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة، وأنتجوا منه كون الإله في جهة.
وإذا ثبت هذا فنقول: حكم الخيال إما أن يكون مقبولا في حق الله تعالى أو غير مقبول، فإن كان مقبولا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهرية، وهو أن يكون البارئ متقدما على العالم بمدة غير متناهية، ويلزمهم القول بكون الزمان أزليا، والمشبهة لا يقولون بذلك. والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة، وهو مباينة البارئ تعالى مكانيا -وهم لا يقولون به- فصار هذا التناقض واردا على الفريقين. [ ص: 378 ] وأما إن قلنا: إن حكم الوهم والخيال، غير مقبول البتة في ذات الله تعالى، وفي صفاته، فحينئذ نقول: قول المشبهة: إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر، أو مباينا عنه بالجهة، قول خيالي باطل، وقول الدهري: إن تقدم البارئ على العالم، لا بد وأن يكون بالمدة والزمان، قول خيالي باطل. وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه، الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته، وذلك هو المنهج القويم، والصراط المستقيم». وزعمت الدهرية: أن تقدم البارئ على العالم، لا يعقل حصوله إلا بالزمان، وأنتجوا منه قدم المدة.