قول القائل: إقرار الطوائف بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار، يقتضي أن إقرار بعض ظواهر الكتاب والسنة ضلال باتفاق الأئمة.
فيقال له: أتقول - حيث كان [الظاهر] ضلالا غير مراد للمتكلم - إن الله لم يبين ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله أو أنه لابد من بيان ذلك بالنصوص؟ فإن أراد الأول كان مضمون كلامه أن من الآيات والأحاديث ما ظاهره ضلال وباطل، إما كفر وإما ما دون الكفر، وأن الله لم يبين ذلك ولا ذكر المراد الحق ولا ما ينفي المراد الباطل، وعلى هذا فلا يكون القرآن كله هدى للناس ولا بيانا للناس، ولا يكون الرسول بلغ البلاغ المبين، ولا يكون الله قد بين للناس ما يتقون، بل ضلوا بكلامه قبل أن يبين لهم ما يتقون، ولا يكون الناس مأمورين بتدبر القرآن كله، ولا مأمورين باتباعه كله، فإنه إذا كان بعض القرآن/ دلالته باطلة مضلة، ولم يبين في القرآن ما يزيل هذا الضلال الباطل لزم من اتباعه الضلال.
[ ص: 457 ] وأما إن قال ما لم يرد ظاهره، فإنه قد بين بخطاب آخر ما يبين المراد، أو ينفي الباطل، لم ينازعه عامة العلماء في هذا، فإنه بالجمع بين النصوص من الآيات والأخبار يكون البيان من الله ورسوله حاصلا وتقوم الحجة على الناس بالرسالة؛ إذ على الناس أن يؤمنوا بالكتاب كله، ولا يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض.
رحمه الله في هذا رسالة معروفة في الرد على من تمسك ببعض الظواهر دون ما يفسره من الآيات والأخبار، لكن هذا ما ينفعه في باب الصفات كما سنبينه -إن شاء الله تعالى-. وللإمام أحمد
ونحن لا نقصد الكلام في إثبات التأويل في الجملة ولا نفيه، ولا وجوب موافقة الظاهر مطلقا ولا مخالفته، إذ في هذا تفصيل وكلام على الألفاظ المشتركة، كما [قد] تكلمنا على ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية وفي غير ذلك.
وإنما المقصود تعقب كلامه بما يجب من رد أو قبول، ونبهنا على أنه ليس كل ما يدعي المدعي أنه ظاهر اللفظ يكون [ ص: 458 ] كذلك، سواء وافق ذلك الظاهر أو خالفه.
وهذا الغلط ما زال ولا يزال في الناس حتى أنه كان منه قطعة في الصدر الأول مثل [ما] ظن بعضهم أن ظاهر قوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [البقرة: 187] أن يتبين لهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان يعمد أحدهم فيربط في رجليه حبلين، ففي الصحيحين عن أبي حازم عن قال: سهل بن سعد وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل: من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: من الفجر فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار". "أنزلت:
[ ص: 459 ] وفي الصحيحين عن عن الشعبي قال: عدي بن حاتم حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر من الليل فلا يتبين لي، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" وفي رواية [قال]: لما نزلت: "إن وسادك إذا لعريض".
وهذه الحال جرت لبعض الناس الذين شهدناهم، ولا ريب أن هؤلاء غلطوا فيما ظنوه الظاهر، لا لقصور في بيان اللفظ ودلالته؛ ولكن لقصور في فهمهم فإن الله تعالى قال: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود فذكر خيطين مفردين معرفين باللام، واللام تصرفهما إلى الخيط المعروف [ ص: 460 ] المعهود، والخيط إنما يقال للشيء الدقيق دون الغليظ، وقوله: حتى يتبين لكم يقتضي أن الخيطين المعروفين يتناولهم كلهم، فمن جعل ذلك عقلا لكل ناس عقالان يختصان بهما، ويختلفون في التبين بحسب المكان الذي هم فيه، فإنما أتي من نفسه.
قال "أكثر ما يغلط الناس من جهة التأويل والقياس؛ فالتأويل كحال هؤلاء الذين تأولوا القرآن على غير تأويله". ومراده بالتأويل المعنى العام كما سنذكره إن شاء الله. الإمام أحمد:
والتأويل في الألفاظ المسموعة كالقياس في المعاني المعقولة، مثل ما ظن بعضهم لما سمع أن الجنب يتيمم بالصعيد، أن البدل يكون مثل المبدل [منه] فقاس التراب على الماء، فتمعك في التراب كما تتمعك الدابة ليوصل التراب إلى جميع البدن بحسب الإمكان، كما وصل الماء.
[ ص: 461 ]