قلت: فقد أخبر أن العرب ما كانوا يتصورون إلا رؤية الشيء المحدود، وأن رؤية ما ليس في الجهة لم يكن معلوما لهم ولا متصورا لهم، وإذا كان كذلك وقد ثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقال أيضا: " قال:" إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته" وثبت إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر صحوا ليس دونه سحاب" وقد أخبر أن العرب المخاطبين بهذا [ ص: 426 ] الكلام لم يكونوا يتصورون من ذلك إلا رؤية ما كان في الجهة، وأن ما سوى ذلك لم يكن معلوما ولا متصورا لهم من لفظ الرؤية، ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل الإجماع من الصحابة والتابعين أخبروا الخلق بأنهم يرون ربهم، ولم يقولوا برؤية في غير جهة، ولا ما يؤدي هذا المعنى، بل قال: اتفاق سلف الأمة على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة، فمثل رؤيته بالرؤية لما هو في جهة: علم بالاضطرار أن الرؤية التي تدل عليها نصوص الرسول وإجماع السابقين هي الرؤية التي كان الناس يعرفونها، وهي لما يكون في الجهة، وهذا بين. "كما ترون الشمس والقمر"
وأيضا فقد أخبر أن ما لا يكون في جهة تسمى رؤيته إدراكا، وأن لفظ الإدراك إذا أريد به الرؤية فهي رؤية مخصوصة، وهي رؤية المتناهي الذي يكون في جهة، فأما الشيء الذي لا يكون في جهة فلا تسمى رؤيته إدراكا، وإذا كان كذلك فيكون قوله تعالى: لا تدركه الأبصار أي متناهيا لا تحيط به ولا تدركه متناهيا محدودا، وهذا الذي ذكره جيد، وإن كان لم يستوف حجته، فإن أئمة السلف بهذا فسروا الآية.
وما ذكرته المعتزلة عن أنه تأول الآية على نفي الرؤية كذب على ابن عباس بل قد ثبت عنه بالتواتر أنه كان يثبت رؤية [ ص: 427 ] الله، وفسر قوله تعالى ابن عباس، لا تدركه الأبصار بأنها لا تحيط. وضرب المثل بالسماء فقال: ألست ترى السماء؟ فقال: بلى، فقال: أكلها ترى؟ فقال لا، قال: فالله أعظم".
وإذا كان كذلك فمعلوم أن فلو كان هو في نفسه بحيث تمتنع رؤيته مطلقا، ليس الممتنع الإحاطة دون الرؤية التي ليست بإحاطة لم ينف هذا الخاص، وهو الإدراك من الأبصار دون إدراكه هو ودون رؤية الأبصار، لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام، بل يقتضي جواز الخاص أو إبهامه لأن المدح بنفي الخاص مع كونه منتفيا، لا يحسن كما لا يحسن أن يقال: لا يقدر بنو آدم على إفناء جميعه، أو لا يقدرون على إفناء ذاته وصفاته، فإن هذا غير مقدور لا لبني آدم ولا لغيرهم، بل هو ممتنع في نفسه، وكذلك لا يقال: الآدميون لا يقدرون على إعدامه أو إماتته أو على سلب قدرته وعلمه ونحو هذا، لأن هذه الأمور ممتنعة في [ ص: 428 ] نفسها، لا يختص بنو آدم بنفي الاقتدار عليها، بل تخصيصهم بذلك يوهم أنه هو يقدر على ذلك، وهذا كلام باطل، فإن هذا ليس بشيء أصلا، حتى تكون رؤية الله عند النفاة هي من باب الممتنعات مثل عدمه وموته وإحداثه ونحو ذلك، ولو كان كذلك لم يحسن نفي هذا عن أبصار العباد كما لا يحسن مدحه بأن العباد لا يعدمونه ولا يميتونه بل تخصيصهم بنفي إدراك أبصارهم له يقتضي أنه هو يدرك نفسه. الله نفى إدراك الأبصار له، ولم ينف إدراكه هو لنفسه ولم ينف مطلق الرؤية،