[ ص: 175 ] فصل
قال الرازي: "الرابع: حكي أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تأتي سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا يوم القيامة كأنهما غمامتان" فأجاب وقال: يعني ثواب قارئيهما. وهذا تصريح منه بالتأويل". أحمد بن حنبل،
[ ص: 176 ] يقال: هذه الحجة، والجواب عنها، مذكور فيما حفظ من مناظرة أحمد للجهمية، من المعتزلة وغيرهم، لما حبس وامتحن، وهو –أيضا- مذكور فيما خرجه في (الرد على الجهمية).
فقال -فيما خرجه، وقد ذكره عنه في (كتاب السنة)-: "باب: الخلال الجهمية أن القرآن مخلوق. من الأحاديث التي رويت: ما ادعت فادعوا أن القرآن مخلوق من قبل هذه الأحاديث. فقلنا لهم: إن القرآن لا يجيء، إنه قد جاء: من قرأ (أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول: هل تعرفني؟ فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن، الذي أظمأت نهارك وأسهرت [ ص: 177 ] ليلك، قال: فيأتي الله به فيقول: يا رب). قل هو الله أحد فله كذا وكذا. [ ص: 178 ] ألا ترون أن من قرأ قل هو الله أحد لا تجيئه، يجيء ثوابه، لأنا نقرأ القرآن ويجيء ثواب القرآن،( فيقول: يا رب). كلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال".
وأما كلامه في المناظرة، فروى في (كتاب السنة) أخبرني الخلال علي بن عيسى، أن حنبلا حدثهم، أن [ ص: 179 ] أبا عبد الله قال: "احتجوا علي يومئذ، فقالوا: تجيء البقرة يوم القيامة، وتجيء تبارك، وقلت لهم: إن هذا الثواب. قال الله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]، إنما تأتي قدرته، إنما القرآن أمثال [ومواعظ] وكذا وكذا وأمر". وقال حنبل -في موضع آخر-: "ومواعظ وأمر وزجر".
[ ص: 180 ] وهذا نظير ما روي عن مجيء سائر الأعمال الصالحة في الصور الحسنة. ومثل ما في حديث الطويل المشهور، الذي رواه البراء بن عازب من حديثه، حدثنا [ ص: 181 ] أحمد أبو معاوية [قال: حدثنا] عن الأعمش، المنهال بن عمرو، عن عن زاذان أبي عمر، قال: [ ص: 182 ] البراء بن عازب لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط [الأعراف: 40]، ثم يقول الله تعالى: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى. قال: فيطرح روحه طرحا، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [الحج: 31]، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، قال: فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: كذب عبدي فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيدخل عليه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره، [ ص: 187 ] حتى تختلف فيه أضلاعه، قال: ويأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك السيئ، فيقول: رب لا تقم الساعة". "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، في يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: "أستعيذ بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثا، ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان [في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا] نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من كفن الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل [القطرة من في السقا]، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك [ ص: 183 ] الكفن وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيبة، فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا، حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا، ثم إلى التي تليها، حتى ينتهون بها إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. [ ص: 184 ] قال: فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، أفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة. فيأتيه من ريحها وطيبها فيفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة –ثلاثا- حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه، [ ص: 185 ] فتتفرق في أعضائه كلها، فينتزعها نزع [السفود] من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، قال: فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح، قال: ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا ما هذه [الروح] الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها فلا يفتح [ ص: 186 ] لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم