الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الثاني: أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا إنه فوق العرش منهم من قال: إنه ملاق للعرش، ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه، ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه، وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدا غير متناه.

وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول إنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات، فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة: هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم.

قال: قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون: إن [ ص: 761 ] الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية، ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم.

قال: واختلفوا فيما بينهم في التجسيم، وهل للباري قدر من الأقدار، وفي مقداره على ستة عشر مقالة.

فذكر قول هشام: إنه جسم وأن له مقدارا، وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسة: لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون.

قال: ولم يثبت لونا غيره، وأنه يتحرك ويسكن، ويقوم ويقعد. وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية: [ ص: 762 ] إنه يدرك بالحواس.

قال: وحكي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونا، ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة، وأن يكون طويلا أو عريضا أو عميقا، وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق. وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط، فإن هذا يزعم أنه لا يرى إلا اللون.

قال: وقال قائلون: إن الباري جسم، وأنكروا أن يكون موصوفا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام، غير أنه على العرش مماس له دون [ ص: 763 ] ما سواه.

قال: واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسما، فقال قائلون: هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم؛ لأنه أكبر من كل شيء، وقال بعضهم: مساحته على قدر العالم، وقال بعضهم: إن الباري جسم له مقدار من المساحة، ولا ندري كم ذلك القدر.

وقال بعضهم: هو في أحسن الأقدار، وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء، وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه.

[ ص: 764 ] وقال بعضهم: ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية، وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت. قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق، وليس بذي حدود ولا قطب.

وقال قوم: إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه، ليس بذي غاية ولا نهاية.

وقال بعضهم: هو الفضاء وليس بجسم، والأشياء قائمة به.

فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم، وقول بعضهم: إنه ليس بجسم، كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم، وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه وعن آخرين أنه بقدر العالم.

وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولا أنه لا نهاية لمساحته، وذكر أيضا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني [ ص: 765 ] أنه فوق العرش وبكل مكان، وقال: فأما أصحاب زهير الأثري، فإن زهيرا كان يقول: إن الله بكل مكان، وأنه مع ذلك على عرشه أنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أنه يجيء يوم القيامة، كما قال: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر 22] بلا كيف.

فيقال له: إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لا نهاية لذاته ومساحته مع قولهم إنه جسم ومع قولهم إنه ليس بجسم، فما حجتك عليهم؟ وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول إنه فوق العرش.

التالي السابق


الخدمات العلمية