[ ص: 540 ] الوجه الثالث: قوله عن مذهبهم: "إنه يجب القطع أن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها، ويجب تفويض معناها إلى الله تعالى".
فيقال: هذا الذي لا يعرف عن أحد من السلف رحمهم الله تعالى، لا يعرف عن أحد منهم أنه قال: يجب القطع بأن مراد الله منها غير ظاهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الرب تعالى، بل
nindex.php?page=treesubj&link=29614_29613المعروف عن السلف نفي تشبيهها ومماثلتها بصفات المخلوقين، وإنكارهم على الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، ونزول كنزولي، واستواء كاستوائي .. ونحو ذلك. فهذا ثابت صريح عن غير واحد من السلف وأئمة السنة، ولا يعرف عن أحد من السلف وأئمة الإسلام المعروفين أنه قال: إن الله تعالى جسم أو جوهر أو متحيز، ولا قال: إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز، ولا قال: هو في جهة، ولا ليس في جهة، فهذه الألفاظ نفيا وإثباتا لا توجد في القرآن والحديث، ولا يوجد نفيها
[ ص: 541 ] ولا إثباتها في كلام أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة المسلمين المعروفين بالإمامة في الدين؛ كالأربعة:
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد، nindex.php?page=showalam&ids=16004وكسفيان الثوري، nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد، nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي، nindex.php?page=showalam&ids=15743وحماد بن زيد، nindex.php?page=showalam&ids=16008وسفيان بن عيينة، nindex.php?page=showalam&ids=16418وعبد الله بن المبارك ... وغيرهم،
[ ص: 542 ] ولا يعرف أيضا عن أحد من السلف أنه قال: إن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها، فضلا عن أن يقول: يجب القطع بشيء، بل لفظ الظاهر مجمل، فقد يراد بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين، فهذا هو الذي نفاه السلف كما دل الكتاب على معنى ذلك، وكذلك العقل، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء [الشورى: 11]. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص: 4]. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=65هل تعلم له سميا [مريم: 65].
فمن قال: إنه استوى على العرش كاستواء الملك، بحيث يكون محتاجا إلى العرش، فهذا تمثيل منكر، فإن الله تعالى غني عن كل ما سواه، والعرش وكل مخلوق مفتقر إلى الله تعالى من كل وجه، وهو بقدرته يحمل العرش وحملته.
وكذلك من قال: ينزل كنزول المخلوق بحيث يبقى تحت
[ ص: 543 ] العرش ويخلو منه العرش، فهذا يقوله طائفة، والسلف أنكروا ذلك، كما أنكره
nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد، nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق بن راهويه، وغيرهما، وقالوا: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، وهو فوق العرش، وهو يقرب من خلقه كيف يشاء، وكذلك من قال: إنه في السماء بمعنى أن الأفلاك تحويه، فمن قال: إنها تحمل على الظاهر بهذا المعنى، فهذا قوله قول باطل منكر عند السلف، كما دل الكتاب والسنة على بطلانه.
وأما إذا قيل تحمل على الظاهر اللائق بجلال الله تعالى، كما تحمل سائر الصفات، مثل لفظ المشيئة والسمع والبصر والقدرة والعلم، فإن مثبتة الصفات يحملون هذه على ظاهرها عند عامة المسلمين، إلا الغلاة المنكرون للأسماء، ومع هذا فليس مفهومها في حق الله تعالى مثل مفهومها في حق المخلوق، بل هنا ثلاث اعتبارات: أن تذكر مطلقة، وأن تذكر مضافة إلى الرب، وأن تذكر مضافة إلى العبد، فإذا ذكرت مضافة إلى الرب مثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255ولا يحيطون بشيء من علمه [البقرة: 255].
[ ص: 544 ] وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=58إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات: 58]. وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=7ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما [غافر: 7]. وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=156ورحمتي وسعت كل شيء [الأعراف: 156]. ونحو ذلك، فهنا يمتنع أن يدل على شيء من خصائص صفات المخلوقين.
وإذا ذكرت مضافة للعبد كقوله تعالى عن يعقوب:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=68وإنه لذو علم لما علمناه [يوسف: 68]. وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=54ثم جعل من بعد ضعف قوة [الروم: 54]. وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=15وقالوا من أشد منا قوة [فصلت: 15]. فهنا يمتنع أن يدخل فيها شيء من خصائص الرب تعالى، وإذا ذكرت عامة مطلقة فقيل: العلم ينقسم إلى علم الرب وعلم العبد، والموجود ينقسم إلى القديم والحديث. فاللفظ العام المطلق الذي هو مورد المعتبر به يدل على شيء من خصائص الرب تعالى، ولا على خصائص العبد.
[ ص: 540 ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ عَنْ مَذْهَبِهِمْ: "إِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا غَيْرُ ظَاهِرِهَا، وَيَجِبُ تَفْوِيضُ مَعْنَاهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى".
فَيُقَالُ: هَذَا الَّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا غَيْرُ ظَاهِرِهَا، ثُمَّ يَجِبُ تَفْوِيضُ مَعْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، بَلِ
nindex.php?page=treesubj&link=29614_29613الْمَعْرُوفُ عَنِ السَّلَفِ نَفْيُ تَشْبِيهِهَا وَمُمَاثَلَتِهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِنْكَارُهُمْ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَدٌ كَيَدِي، وَقَدَمٌ كَقَدَمِي، وَنُزُولٌ كَنُزُولِي، وَاسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَائِي .. وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا ثَابِتٌ صَرِيحٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ أَوْ جَوْهَرٌ أَوْ مُتَحَيِّزٌ، وَلَا قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ، وَلَا قَالَ: هُوَ فِي جِهَةٍ، وَلَا لَيْسَ فِي جِهَةٍ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَا تُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا يُوجَدُ نَفْيُهَا
[ ص: 541 ] وَلَا إِثْبَاتُهَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ؛ كَالْأَرْبَعَةِ:
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=16867وَمَالِكٍ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ، nindex.php?page=showalam&ids=16004وَكَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، nindex.php?page=showalam&ids=15124وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، nindex.php?page=showalam&ids=13760وَالْأَوْزَاعِيِّ، nindex.php?page=showalam&ids=15743وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، nindex.php?page=showalam&ids=16008وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، nindex.php?page=showalam&ids=16418وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ... وَغَيْرِهِمْ،
[ ص: 542 ] وَلَا يُعْرَفُ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا غَيْرُ ظَاهِرِهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: يَجِبُ الْقَطْعُ بِشَيْءٍ، بَلْ لَفْظُ الظَّاهِرِ مُجْمَلٌ، فَقَدْ يُرَادُ بِالظَّاهِرِ مَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَفَاهُ السَّلَفُ كَمَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ، قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11]. وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الْإِخْلَاصُ: 4]. وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=65هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمُ: 65].
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كِاسْتِوَاءِ الْمَلِكِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الْعَرْشِ، فَهَذَا تَمْثِيلٌ مُنْكَرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَالْعَرْشُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُ كَنُزُولِ الْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَبْقَى تَحْتَ
[ ص: 543 ] الْعَرْشِ وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، فَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ، وَالسَّلَفُ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، كَمَا أَنْكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15743حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، nindex.php?page=showalam&ids=12418وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَغَيْرُهُمَا، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ تَحْوِيهِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الظَّاهِرِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَهَذَا قَوْلُهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ مُنْكَرٌ عِنْدَ السَّلَفِ، كَمَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ.
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ تُحْمَلُ عَلَى الظَّاهِرِ اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا تُحْمَلُ سَائِرُ الصِّفَاتِ، مِثْلُ لَفْظِ الْمَشِيئَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ يَحْمِلُونَ هَذِهِ عَلَى ظَاهِرِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا الْغُلَاةُ الْمُنْكِرُونَ لِلْأَسْمَاءِ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ مَفْهُومُهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ مَفْهُومِهَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، بَلْ هُنَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ: أَنْ تُذْكَرَ مُطْلَقَةً، وَأَنْ تُذْكَرَ مُضَافَةً إِلَى الرَّبِّ، وَأَنْ تُذْكَرَ مُضَافَةً إِلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا ذُكِرَتْ مُضَافَةً إِلَى الرَّبِّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [الْبَقَرَةُ: 255].
[ ص: 544 ] وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=58إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذَّارِيَاتُ: 58]. وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=7رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غَافِرٌ: 7]. وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=156وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَافُ: 156]. وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُنَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَإِذَا ذُكِرَتْ مُضَافَةً لِلْعَبْدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=68وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يُوسُفُ: 68]. وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=54ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الرُّومُ: 54]. وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=15وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فُصِّلَتْ: 15]. فَهُنَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَإِذَا ذُكِرَتْ عَامَّةً مُطْلَقَةً فَقِيلَ: الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ وَعِلْمِ الْعَبْدِ، وَالْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إِلَى الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ. فَاللَّفْظُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الْمُعْتَبِرِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَلَا عَلَى خَصَائِصِ الْعَبْدِ.