الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اليمين بتحريم ما أحل الله من الطعام وغير ذلك

                                                                                                                                                                              قال الله - عز وجل - : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ) .

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: إنما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه شرابا كان يشربه عند بعض أزواجه. [ ص: 120 ]

                                                                                                                                                                              8904 - حدثنا علي بن المبارك، قال: حدثنا زيد بن المبارك، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن ابن عباس في قوله: ( تبتغي مرضات أزواجك ) قال: ترضي بتحريمها حفصة ابنة عمر؛ لأنها وجدتها معه في بيتها، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة أن تكتم ذلك، فأخبرت حفصة بذلك عائشة ، فتظاهرتا عليه.

                                                                                                                                                                              8905 - فأما عطاء فأخبرني عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، ويمكث عندها، فتواطأت وحفصة أن إذا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير، إني لأجد منك ريح مغافير، فقال: "لا، ولكن كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، ولن أعود له، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدا".

                                                                                                                                                                              8906 - حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، قال: حدثنا الحسن بن علي ، قال: حدثنا أبو أسامة ، قال: حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو منهن، فدخل على حفصة ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شربة، فقالت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة، وقالت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه [ ص: 121 ] الريح - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جرست نحله العرفط، وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة قالت - تقول سودة - : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذي قلت، وإنه على الباب؛ فرقا منك، فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: "لا" قلت: فما هذه الريح؟ قال: "سقتني حفصة شربة من عسل" قلت: جرست نحله العرفط.

                                                                                                                                                                              قال: فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه، قال: "لا، لا حاجة لي به" قال: تقول سودة [سبحان الله! والله] لقد حرمناه [قلت] لها: اسكتي.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا قول ابن عباس ، وعبد الله [بن عتبة ] .


                                                                                                                                                                              8907 - حدثنا موسى بن هارون ، قال: حدثنا شجاع، قال: حدثنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) قال: حرم شربته. [ ص: 122 ]

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتاته القبطية أم إبراهيم ، هكذا قال قتادة ، وقال الحسن البصري : حرم جارية له.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والذي كان حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه الشربة التي ذكرناها، وحلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك، فأمر بكفارة يمين لليمين التي كان حلف بها، قد ذكرنا أنه كان حلف في حديث عائشة ، من حديث عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة .

                                                                                                                                                                              8908 - ومن حديث مسلمة بن علقمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت: آلى رسول الله من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين كفارة، كتب إلي بعض أصحابنا يذكر أن الحسن بن قزعة حدثهم قال: حدثني مسلمة بن علقمة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قد اختلف أهل العلم فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا أحله الله له، فقالت طائفة: لا يحرم عليه الشيء الذي حرمه عليه، وعليه فيه كفارة يمين، حكى أبو عبيد هذا القول عن أهل العراق ، فإن أراد بالحل عليه حرام الطعام والشراب واللباس والإماء، فعليه كفارة يمين، وإن نوى به الكذب فلا شيء عليه، وإن لم يكن له نية فهي كفارة يمين. [ ص: 123 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد روينا عن ابن مسعود ما يدل على هذا المعنى:

                                                                                                                                                                              8909 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: حدثنا عبد الله، عن سفيان، عن منصور ، عن أبي الضحى، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود فجيء بضرع، فتنحى رجل فقال عبد الله: ادن، فقال: إني حرمت أن لا آكله، فقال عبد الله: ادن فاطعم، وكفر عن يمينك، ثم تلا هذه الآية: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) .

                                                                                                                                                                              8910 - حدثنا علي بن الحسن ، قال: حدثنا عبد الله، عن سفيان، عن الأعمش ، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث ، عن عمرو بن شرحبيل قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود ، فقال: إني حرمت فراشي، فقال: نم على فراشك، وكفر عن يمينك، ثم تلا هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) فقال معقل: من أجل هذه الآية سألتك، قال: آية الأيمان أزكى، قال: تحرير رقبة.

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إذا قال: كل حلال عليه حرام، هي يمين.

                                                                                                                                                                              هذا قول الحسن وجابر بن زيد ، وقتادة .

                                                                                                                                                                              وقال الحسن: إلا أن يقول: من أهل أو مال.

                                                                                                                                                                              وكان الأوزاعي يقول في قوله: ما أحل الله عليه حرام، كفر يمينك، ولا يسأله عن نيته، فإن أخبره أنه نوى به طلاقا، قال: ما نويت. [ ص: 124 ]

                                                                                                                                                                              وقال أحمد: إن كانت له امرأة فكفارة الظهار، وإن لم تكن له امرأة فكفارة يمين، وكذلك قال إسحاق إذا لم يرد طلاقا.

                                                                                                                                                                              وحكى أبو عبيد عن مالك أنه كان لا يرى عليه فيما سوى النساء شيئا، ويتأول قوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وحكي عن سفيان وكثير من أهل العراق أنهم قالوا: إن لم يرد طلاقا فيمين يكفرها.

                                                                                                                                                                              8911 - وقد روينا عن ابن عباس أنه قال في النذر والحرام إذا لم يرد شيئا قال: أغلظ الأيمان عليه فعليه رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا.

                                                                                                                                                                              حدثنا إسحاق قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                              وقال طاوس : هو ما نوى، يعني في قوله: كل حلال عليه حرام.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد روي خبر أبي موسى في (قول) الرجل: لحم الدجاج، على الاختصار، فلا يظن ظان أن أبا موسى أمر الرجل بكفارة يمين لتحريمه الدجاج على نفسه، ولكنه أمره بالكفارة؛ لأنه حلف (لا) يأكله.

                                                                                                                                                                              8912 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: حدثنا الصعق، عن مطر الوراق، عن زهدم الجرمي، قال: دخلت [ ص: 125 ] على أبي موسى الأشعري ، وبين يديه لحم دجاج يأكله، فقال: ادنه، قال: قلت: إني قد حلفت ألا آكله، قال: ادنه؛ فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكله، وسأخبرك عن يمينك هذه، قال: فدنوت فأكلت، ثم قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستحمله فحلف أن لا يحملنا، فوالله ما برحنا [حتى] أتته فرائض غر الذرى، فأمر لنا بحملان منها، فلما خرجنا قلنا: ما صنعنا، نسينا رسول الله يمينه، والله لا نفلح، قال: فرجعنا إليه، قال: ما ردكم؟ قلنا: يا رسول الله كنت حلفت ألا تحملنا فخشينا أن نكون نسيناك يمينك، قال: "إني والله ما نسيتها، ولكن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فأما تحريم الرجل زوجته على نفسه فقد ذكرنا ذلك في كتاب الطلاق.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية