الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر سقوط كفارات الأيمان عن المخطئ والناسي

                                                                                                                                                                              8959 - حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، قال: حدثنا زهير ، قال: حدثنا وكيع ، قال: حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان - مولى خالد بن خالد - قال: سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: لما نزلت هذه الآية: ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلهم من شيء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سمعنا وأطعنا وسلمنا" فألقى الله الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله: [ ص: 167 ] ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ) ، ( لا يكلف الله ) الآية إلى قوله: ( أو أخطأنا ) قال: قد فعلت ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ) قال: قد فعلت ( واعف عنا ) إلى قوله: ( فانصرنا على القوم الكافرين ) قال: قد فعلت.

                                                                                                                                                                              8960 - حدثنا موسى بن هارون ، قال: حدثنا محمد بن المنهال الضرير، قال: حدثنا يزيد بن زريع ، قال: حدثنا روح بن القاسم ، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة ، قال: لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ( لله ما في السماوات وما في الأرض ) قرأ إلى ( على كل شيء قدير ) أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فجثوا على الركب، وقالوا: لا نطيق لا نستطيع، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع، فأنزل الله - عز وجل - : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله ) إلى ( وإليك المصير ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير" قال: فأنزل الله ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال: نعم ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال: نعم ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) قال نعم. [ ص: 168 ]

                                                                                                                                                                              8961 - حدثنا الربيع بن سليمان ، قال: حدثنا بشر بن [بكر ] قال: حدثنا الأوزاعي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

                                                                                                                                                                              8962 - حدثنا زكريا بن داود ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله تعالى: ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال: لا أؤاخذكم ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال: لا أحملكم ما لا طاقة لكم به ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ) إلى قوله: ( الكافرين ) قال: قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرتكم على القوم الكافرين.

                                                                                                                                                                              واحتج بعضهم في إسقاط الحكم عن المخطئ والناسي بقوله - عز وجل - : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) مع تغليظ الله - عز وجل - على رامي المحصنات، قال الله ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ) وقد أعلم [ ص: 169 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قذف المحصنات من الكبائر، وإذا كان الله في مثل هذا الأمر قد رفع الخطأ عن من نسب رجلا إلى غير أبيه، ولو كان عمد ذلك لكان راميا لأم المرمي فكان عليه الحد، ففيه أبين البيان على أن لا شيء على من أخطأ فنسب رجلا إلى غير أبيه؛ لقوله: ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) .

                                                                                                                                                                              8963 - أخبرنا النجار، عن عبد الرزاق ، قال: أخبرنا معمر ، عن قتادة قال: ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) قال: لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس، قال: وسمع عمر رجلا يقول: اللهم اغفر لي خطاياي، فقال: استغفر الله في العمد، فأما الخطأ فقد تجوز عنه.

                                                                                                                                                                              8964 - حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال: حدثنا كثير بن هشام، قال: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، قال: يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد".

                                                                                                                                                                              8965 - حدثنا يحيى بن محمد قال: حدثنا سهل بن بكار العبسي قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن واصل - مولى أبي عيينة - عن يحيى بن عقيل، قال: رفع إلي يحيى بن يعمر كتابا، قال: هذه خطبة عبد الله بن مسعود ، كان يقوم فيخطب بها على أصحابه كل عشية خميس، منها: أيها الناس، إني والله ما أخاف عليكم الخطأ أن تؤخذوا به، وقد قال الله في [ ص: 170 ] بعض ما أنزل ( [وليس عليكم] جناح فيما أخطأتم به ) .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : واحتجوا مع ذلك بإجماع أهل العلم على أن رجلا لو أراد أن يقول لزوجته [واسمها زينب ] يا زانية، يريد: يا زينب ، فسبقه لسانه إلى أن تكلم بالقذف أن الإثم مرفوع عنه، وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [حين] قال له ذو اليدين وقد سلم من الركعتين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: "ما قصرت ولا نسيت" وفي ذلك دليل على أن المأثم في الخطأ مرفوع في القول عن المسلمين.

                                                                                                                                                                              وقوله فيمن أكل وشرب ساهيا في صومه: "ليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" دليل بين على الفرق بين العامد والساهي؛ لأن من أكل عامدا في صوم شهر رمضان بغير عذر عاص آثم، وليس كذلك من أكل أو شرب ناسيا، ففي ذلك دليل على الفرق بينهما، ولما لم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاوية بن الحكم الإعادة حيث قال وهم في الصلاة: "ما لكم تنظرون إلي؟!" دل على الفرق بين العامد والمخطئ في الكلام.

                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: ولما اختلفوا في وجوب الكفارة على الساهي والناسي، فأوجبت طائفة عليه الكفارة، وأسقطت عنه ذلك طائفة، لم يجز أن يوجب فرضا باختلاف، على أن فيما ذكرناه من دلائل الكتاب [ ص: 171 ] والسنة كفاية ومقنعا، ولا نعلم أحدا زعم أن الله نهى الناسي أن يفعل في حال نسيانه أمرا نهاه عنه، دل على أن فعل الناسي في أبواب الكفارات والطلاق والعتاق ساقط عنه، فأما أموال الناس إذا أتلفها متلف مخطئا أو ناسيا، فليس ذلك من سائر الأحكام بسبيل؛ لإجماعهم على وجوب ذلك، ولو اختلفوا فيه لكان سبيله كسبيل سائر ما ذكرناه، والله أعلم.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فكان عطاء بن أبي رباح ، وعمرو بن دينار ، وابن أبي نجيح يقولون في الرجل يحلف بالطلاق على أمر لا يفعله، ففعله ناسيا: أن لا شيء عليه، وبه قال إسحاق بن راهويه ، قال: أرجو أن لا يلزمه من ذلك شيء، وأوجبت طائفة عليه الحنث وألزمته ذلك، هذا قول سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والزهري ، ( وقتادة ) وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ومالك وأصحاب الرأي، وكذلك قال أبو عبيد في الطلاق والعتق خاصة، وكان يقول في سائر الأيمان: لا حنث عليه.

                                                                                                                                                                              والمشهور من قول الشافعي عند أصحابه ما قاله مالك والكوفي، وقال الشافعي في كتاب "النذور والأيمان": ولو حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأخذ حقه [ ص: 172 ] ثم وجد دنانيره [زجاجا أو نحاسا] حنث في قول من لا يطرح عن الناس الخطأ والنسيان، ولا يحنث في قول من طرح عن الناس الخطأ، وكان أحمد بن حنبل يحنث في النسيان في الطلاق، ويقف عن إيجاب الحنث في سائر الأيمان إذا كان ناسيا.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية