الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              جماع أبواب الإقرار بالزنا

                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم في الإقرار الذي يجب به حد الزنا

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في الإقرار الموجب لحد الزنا. فقالت طائفة: إذا أقر بالزنا مرة وجب عليه الحد. هذا قول الحسن، وحماد بن أبي سليمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأبي ثور، واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة فإن اعترفت رجمها. وأمر عمر بن الخطاب بذلك أبا واقد الليثي، وقد ذكرت حديث أبي هريرة في باب قبل هذا الباب، وحكي هذا القول عن عبيد الله بن الحسن .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، أن رجلا وقع على جارية فأحبلها ثم اعترف على نفسه، ولم يكن أحصن، فأمر به أبو بكر فجلد، ثم نفي عاما .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: لا يقام عليه الحد حتى يقر أربع مرار. هذا قول الحكم، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهو قول [ ص: 450 ] ابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي، ثم اختلف هؤلاء الذين قالوا: لا يقام عليه الحد حتى يقر أربع مرات، في إقراره بالزنا أربع مرات في مجلس واحد، أو مجالس شتى، فكان ابن أبي ليلى يقول: إذا أقر أربع مرات في مقام واحد حد .

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل: الأحاديث ليست تدل إلا على مجلس واحد إلا ذلك الشيخ بشير بن مهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ردده في أيام مختلفة ومجالس مختلفة، قال: وذاك عندي منكر الحديث. وقال إسحاق: إذا ردده في مقام واحد في كل مرة يولي حتى يعرض عنه ثم يرجع .

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: فإن أقر في مجلس واحد أربع مرات فهو بمنزلة مرة واحدة . [ ص: 451 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد، للحديث الذي احتج به الشافعي، وبحديث عمران بن حصين، حيث أقرت الجهينية بالزنا، ولم تعترف أربع مرات، وقد ذكرت إسناده في باب قبل، والمعترف مرة واحدة عند أهل المعرفة باللغة معترف لا تنازع بينهم في ذلك، وليس لاعتلال من اعتل بقصة ماعز في هذا الباب معنى، والدليل على ذلك سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره، ففي حديث أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هل بك جنون"؟ قال: لا .

                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ " قال: لا. قال: "أفنكتها؟ " قال: نعم .

                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أنكتها، حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر؟" قال: نعم. قال: "هل تدري ما الزنا؟" قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال: "فما تريد بهذا القول؟" قال: أريد أن تطهرني قال: فأمر به فرجم .

                                                                                                                                                                              ففيما ذكرنا من هذه الأخبار وما لم نذكره استغناء منا بما ذكرناه دليل على أن أمر ماعز اشتبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على صحة ذلك أنه لم يفعل بالغامدية ذلك، وقالت له: لعلك أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك فلم يرددها، وفي إجماع أهل العلم على أن الرجل إذا أقر بحق لمسلم مرة واحدة أن الحق لازم، ولو أنكر لم [ ص: 452 ] يؤخذ إلا ببينة، وكذلك لو اعترف رجل لرجل بأنه قتل له ولدا وجب عليه القود باعتراف مرة، وأجمع أهل العلم على أن من أقر بالارتداد [مرتين] اسم الكفر لازم له، والقتل واجب عليه، والمخالف لنا قال بذلك كله، فاللازم له على مذهبه أن يوجب على المعترف بالزنا مرة واحدة الحد، كما أوجب على المقر بحق المسلم، وعلى المقر بالقتل والارتداد مرة واحدة ما أقر به .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية