الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب ذكر اختلاف أهل العلم في الهبات التي لم تقبض

                                                                                                                                                                              أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن من وهب عبدا بعينه، أو دارا، أو دابة بعينها، وقبض ذلك الموهوب له بأمر الواهب أن الهبة صحيحة.

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الرجل يهب الرجل الشيء ويقبله الموهوب له الشيء، فقال كثير من أهل العلم: لا تتم الهبة حتى يقبضها الموهوب له، وممن قال هذا القول: ( إبراهيم) النخعي ، وسفيان الثوري ، والحسن بن صالح ، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي ، وأصحاب الرأي، والمزني ، وكتب عمر: أيما رجل نحل من قد بلغ الحوز فلم يدفعه إليه فتلك النحلة باطلة.

                                                                                                                                                                              وقال عثمان البتي في رجل نحل ابنا له سهما معروفا كان له في أرض، ولم يكن قاسم أصحابه، قال: إذا كان قد خرج من جميع حقه إليه فهو جائز إذا كان يجوز مع شركائه، وإن لم يقسم.

                                                                                                                                                                              وقال ابن شبرمة: لا يجوز ذلك حتى يقسم. [ ص: 36 ]

                                                                                                                                                                              قال معمر : قول البتي أحب إلي.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ولمالك بن أنس في هذا الباب مذاهب يحتاج أن تحكى على جهتها.

                                                                                                                                                                              قال مالك في "الموطأ": الأمر عندنا فيمن أعطى أحدا عطية لا يريد ثوابها، وأشهد عليها أنها ثابتة للذي أعطيها إلا أن يموت المعطي قبل أن يقبضها الذي أعطيها.

                                                                                                                                                                              قال: ومن أعطى عطية لا يريد ثوابها، وأشهد عليها، ثم أراد أن يمسكها فليس ذلك له، فإذا قام عليها صاحبها أخذها.

                                                                                                                                                                              ومن أعطى عطية ، ثم أنكر الذي أعطى، فجاء المعطى بشاهد يشهد له أنه أعطاه ذلك، عرضا كان أو ذهبا أو ورقا أو حيوانا أحلف الذي أعطي مع شاهده، فإن أبى الذي أعطي أن يحلف أحلف المعطي، فإن أبى أن يحلف أحلف المعطي، (فإن أبى أن يحلف [أدى] إلى المعطى ما ادعى عليه إذا كان له شاهد.

                                                                                                                                                                              وحكى ابن القاسم ، عن مالك أنه سأله عن ما يشتري الناس في حجهم من الهدايا لأهليهم، مثل الثياب كسوة لأهله، ثم يموت قبل أن يصل إلى بلده، قال: إن كان أشهد على ذلك رأيته لمن اشتراه له، وإن لم يشهد فهو ميراث، فقلت لمالك: فالرجل يبعث بالهدية أو بالصلة إلى الرجل وهو غائب، فيموت الذي بعث بها، أو الذي بعث إليه قبل أن يصل إلى المبعوثة إليه، قال: فإن كان أشهد على ذلك حين بعث بها [ ص: 37 ] على نفاذها فمات الباعث بها فهي للذي بعث إليه، وإن مات الذي بعث إليه بعدما أنفذها الباعث، وأشهد عليها، فهي لورثته، فإن لم يكن أشهد الباعث عليها حين بعث بها فأيهما مات منهما قبل أن يصل فهي ترجع إلى الباعث أو ورثته.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فمن حجة من قال: إن الهبات لا تتم إلا بالقبض: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى للنجاشي مسكا، وقال لأهله: "أحسبه مات فإن يرجع إلي أعطكم منه" فكان ذلك، فرجع المسك إليه فأعطى منه، ولو كانت الهبة والهدية تجبان بقول صاحبهما لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هبته ولا هديته وملكه لغيره، وهو يقول - صلى الله عليه وسلم - : "الراجع [في] هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" واحتجوا بقصة أبي بكر وعائشة في النحل الذي نحلها.

                                                                                                                                                                              8826 - حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة، عن عائشة قالت: لما حضرت أبا بكر الوفاة قال: أبنية إنه ليس أحد أحب إلي غنى منك ولا أعز علي فقرا منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من أرضي التي بالغابة، وإنك لو كنت أحرزتيه كان لك، فإذا لم تفعلي فإنما هو للوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت عائشة : هل إلا أم عبد [الله؟ قال: نعم، وذو بطن] [ ص: 38 ] ابنة خارجة، قد ألقي في نفسي أنها جارية، فأحسنوا إليها.

                                                                                                                                                                              8827 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير قال: أخبرني المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن عبد القاري، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: ما بال أقوام ينحلون أولادهم فإذا مات الابن قال الأب: مالي و [في] يدي، وإذا مات الأب قال: قد كنت نحلت [ابني] كذا وكذا، لا نحل إلا لمن حازه وقبضه عن أبيه.

                                                                                                                                                                              8828 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال: حدثنا أبو نعيم ، قال: حدثنا عباد بن أبي سليمان التميمي، قال: سألت أنسا قلت: إن والدي كان قد جعل لوالدتي بعض الخدم، وقد هلك، وإن إخوتي نازعوها، فقال: إن كانت بانت بها في حياة منه فهي لها وإلا فهي في الميراث".

                                                                                                                                                                              قال القائل بهذا القول: فالدلالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أبي بكر ، وعمر، وعائشة، وأنس موجود على ما قلنا، وأن الهبات لا تتم إلا بالقبض، وقد أجمعوا على ثبوت ملك الواهب على الشيء الموهوب، واختلفوا في زوال ملكه عن الشيء إذا وهب ولم يقبض، [ ص: 39 ] فالشيء على ملك الواهب حتى يقبضه الموهوب له بأمر الواهب، فإذا قبضه بأمر الواهب وجب الشيء للموهوب؛ لاتفاقهم حينئذ على ذلك.

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إنما يزول الملك والكلام دون القبض، ولمن وهبت له هبة أن يقبضها بأمر الواهب وبغير أمره، وشبهوا ذلك بالبيع ينعقد بالكلام، هذا قول أبي ثور ، وكان الحسن البصري يقول: إذا أعطى الرجل امرأته عطية معلومة فهو لها وإن لم تقبضه إذا شهد لها على ذلك، وقال حماد بن أبي سليمان ، وابن أبي ليلى في امرأة أعطاها زوجها شيئا: قبضها إعلامه، هي في عياله.

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل : ليس بينه وبينها حيازة، وهن معه في البيت، نحن نقول في الهبة إذا علمت فهي جائزة.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد ذكرنا فيما ذكرناه عن مالك مسائل تدل من قوله عن أن الهبة تتم بغير القبض إذا شهد؛ لئلا يظن ظان أن في المسألة إجماعا، وقصة النجاشي غير ثابتة؛ لأن في إسنادها مقالا.

                                                                                                                                                                              8829 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال: حدثنا مسدد ، قال: حدثنا مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة ، عن أمه أم كلثوم ، قالت: لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة قال: "إني قد أهديت إلى النجاشي أواق من مسك وحلة، وإني لا أراه إلا قد مات ولا أرى الهدية التي أهديت إلا سترد علي، فإن ردت علي فهي لك" فكان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مات النجاشي وردت إليه الهدية، فلما ردت أعطى كل امرأة من نسائه [ ص: 40 ] أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائرها أم سلمة ، وأعطاها الحلة.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والدة موسى بن عقبة لا أعرفها، ولا أدري هل سمعت من أم كلثوم أم لا، وقد أجاب عن خبر أبي بكر وعائشة: أبو ثور ، وقال: [ ص: 41 ] لا تخلو [إذا] نحلها من إحدى معنيين: إما أن يكون نحلها من النحل ما يكون ثمرته عشرين وسقا، فهذا ليس بمعلوم، ولا ندري كم ذلك من نخلة، أو يكون نحلها من الثمرة سوى النخل عشرين وسقا [...] ولا سهم من سهام معلومة، وكل هبة أو صدقة على هذا غير جائزة. والله أعلم.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية