الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر خبر ثان يدل على مثل معنى خبر ابن عمر .

                                                                                                                                                                              8936 - حدثنا موسى بن هارون ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا مسعر ، عن معبد بن خالد ، عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة - امرأة من جهينة - قالت: جاء يهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم أن يقولوا: "ما شاء الله ثم شئت" ويقولوا: "ورب الكعبة".

                                                                                                                                                                              8937 - حدثنا علي، قال: حدثنا أبو عبيد ، قال: حدثني نعيم، عن عبد العزيز بن محمد ، عن ثور بن زيد، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: لأن أحلف بالله فأحنث وأكفر أحب إلي من أن أضاهي بشيء. [ ص: 147 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ومن حديث معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي العلاء ، أن رجلا حلف بالمربد بمواقع النجوم فبرص.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فقد ثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يحلف بغير الله، وبالتغليظ على من حلف بغيره، وفيه دليل على أن لا كفارة فيه، وفي حديث سعد بن أبي وقاص - وأنا ذاكره بعد إن شاء الله - دليل على ما قلناه، فالحالف بغير الله عاص في يمينه إذا كان بالنهي عن ذلك عالما.

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم في معاني بعض هذه الأخبار، فكان إسحاق يقول، يعني قوله: "من حلف بغير الله فقد كفر" فيما نرى - والله أعلم - أن يكون أراد به على الرغبة في اليمين بغيره، فذلك كفر، إذا رغب عن اليمين بالله، ويمكن فيه معنى آخر، وذلك أن يرى الحالف بغير الله أن ذلك أحرى أن لا يتقدم الحالف عليه إذا كان طلاقا أو عتقا، فيستحلف بعضهم بعضا لهذا المعنى.

                                                                                                                                                                              ولقد فسر ابن المبارك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فقد كفر" أنه أراد به التغليظ وليس الكفر، كما روي عن ابن عباس في قوله: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) : إنهم به كفرة، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.

                                                                                                                                                                              وكذلك قال عطاء : كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.

                                                                                                                                                                              ومن ذلك ما حكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" أي أنه كفر بما أمر به، أنه لا يقتل بعضهم بعضا. [ ص: 148 ]

                                                                                                                                                                              وقال غير إسحاق : كان الناس في الجاهلية يعيذون من دون الله أشياء، فيحلفون بأسمائها؛ تعظيما لها، كاللات والعزى، وكانوا يعظمون آباءهم، ويعظمون الكعبة فيحلفون بها، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخلقوا بأخلاق أهل الجاهلية ويتشبهوا بهم، وسمى ذلك كفرا إذ كان شبيها بأفعال أهل الكفر، لا أنه كفر بالله على الحقيقة، والعرب تشبه الشيء بالشيء فيلزمه اسمه على المجاز، من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنجشة: "رويدا سوقك بالقوارير" يريد النساء، شبههن بالقوارير؛ لضعفهن ورقتهن، وكذلك قوله في فرس أبي طلحة حين ركبه وأجراه: "وجدناه بحرا" سماه بحرا تشبيها بالبحر؛ لسعة جريه.

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم في معنى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليمين بغير الله أهو عام في الأيمان كلها، أم خاص أريد بذلك بعض الأيمان دون بعض.

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: الأيمان المنهي عنها هي الأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيما منهم لغير الله، كاليمين باللات والعزى والآباء والكعبة والمسيح و (بهذه) الشرك، فهذه الأيمان المنهي عنها أن يحلف بها المرء، ولا كفارة فيها.

                                                                                                                                                                              فأما ما كان من الأيمان (بما) يؤول الأمر فيه إلى تعظيم الله فهي غير تلك، وذلك كقول الرجل: وحق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحق الإسلام، وكاليمين بالحج والعمرة، والصدقة، والعتق، وما أشبه ذلك، وكل ذلك من حقوق الله، ومن تعظيم الله. [ ص: 149 ]

                                                                                                                                                                              وحدثني علي، عن أبي عبيد قال: إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به تعظيم الله، أو يراد به القربة إليه، فمن تعظيم الله: أن يحلف به، أو بوجهه، أو بعزته، أو بجلاله، وما أشبه هذا.

                                                                                                                                                                              ومن القربة إليه اليمين بالعتاق، والمشي والهدي والصدقة، فأما إخراج الرجل نفسه من الملة الحنيفية إلى الكفر فبعيد الشبه مما وصفنا، إنما هذا كالذنوب العظام التي تجل عن الكفارة، وكما جلت يمين الغموس أن تكفر، وكقتل العمد الذي لا كفارة على صاحبه إلا التوبة والاستغفار، فكذلك الحلف بالشرك إن بر في ذلك صاحبه أو فجر.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد مال إلى هذا المذهب غير واحد ممن لقيناه، واستدل بعضهم بالأخبار التي رويت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيجابهم على الحالف بالعتق وصدقة المال والهدي ما أوجبوه، مع روايتهم هذه الأخبار التي فيها التغليظ في اليمين بغير الله أن معنى النهي عن اليمين بغير الله غير عام؛ إذ لو كان عاما [ما] أوجبوا فيه من الكفارات ما أوجبوا، ولنهوا [عن] ذلك. [ ص: 150 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية