الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب ذكر خبر رابع يدل ظاهره على الأمر بالتسوية بين الأولاد والعدل بينهم.

                                                                                                                                                                              8820 - حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا فطر، عن أبي الضحى، قال: سمعت النعمان بن بشير ، قال: انطلق بي أبي بشير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهده على عطية يعطيه، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هل لك ولد غيره؟" قال نعم، قال بيده هكذا: " (سو) ".

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد اختلف أهل العلم في الرجل ينحل بعض ولده دون بعض، فممن قال: ذلك جائز: مالك، والشافعي .

                                                                                                                                                                              قال مالك: قد نحل أبو بكر عائشة دون ولده.

                                                                                                                                                                              قال: وإنما يكره من ذلك أن ينحل الرجل بعض ولده ماله كله.

                                                                                                                                                                              وذكر الشافعي حديث النعمان الذي بدأنا بذكره، قال: وفي هذا دلالة على شيئين:

                                                                                                                                                                              أحدهما: أن العطية على الأثرة جائزة في الحكم من قبل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فارجعه" ودلالة على أن للوالد أن يرجع فيما وهب لولده، وقول أصحاب الرأي كقول هؤلاء.

                                                                                                                                                                              وروينا عن شريح أنه قال: لا بأس أن يفضل بعض ولده على بعض. [ ص: 26 ]

                                                                                                                                                                              ورخص في ذلك أبو الشعثاء.

                                                                                                                                                                              وكان الحسن بن صالح لا يرى بذلك بأسا إذا فعل ذلك لله لصلاح عنده ولقلة حيلة، وكان الحسن البصري يكره ذلك، ويجيزه في القضاء، وكرهت طائفة ذلك، وممن كرهه طاوس ، قال: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق.

                                                                                                                                                                              وسئل أحمد بن حنبل عن رجل فضل بعض ولده على بعض، قال: بئس ما صنع.

                                                                                                                                                                              وقال إسحاق بن راهويه : فإن نحل بعضهم دون بعض فمات فهو ميراث بينهم، لا يسع أحدا أن ينتفع بما أعطي دون إخوته وأخواته، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "جئت بمال ... " "هو جور" مما سنبين لك ما وصفنا حيث قال: "اردده".

                                                                                                                                                                              قال: وقال مجاهد مثل هذا: إذا لم ينحل الباقي مثل ذلك فهو ميراث.

                                                                                                                                                                              قال عروة بن الزبير : يرد من حيف الناحل ما يرد من حيف الموصي.

                                                                                                                                                                              ورآه طاوس من أحكام الجاهلية، تلا قول الله - عز وجل - : ( أفحكم الجاهلية يبغون ) الآية.

                                                                                                                                                                              فكل ما أراد به حرمان البقية فهو كما وصفنا، فإن كان أعطى بعض ولده دون بعض عند نائبة إما تزويج ولد أو ما أشبهه، ثم لم يكن له يومئذ ولد غيره ثم ولد له ولد بعد، ثم لم يعط الباقين وإرادته على إعطائهم لم يكن ميراثا.

                                                                                                                                                                              والحجة في ذلك قول أبي [ ص: 27 ] بكر لعائشة حيث نحلها، فقال: وددت أنك حزتيه قبل مرضي، حتى أنه قال لها: إنما هو اليوم مال وارث.

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم في التسوية بينهم، وتفضيل الذكر على الأنثى: فقالت طائفة: يقسم بينهم في حياته كما يقسم المال بينهم بعد وفاته، للذكر مثل حظ الأنثيين، كذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق ، قال إسحاق : وكتاب الله ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) فإذا قسم في الحياة حكم بحكم الله.

                                                                                                                                                                              8821 - وروينا عن شريح، أن رجلا قال له: يا أبا أمية إني قد قسمت مالي بين ولدي، ولم آل أن أعدل بينهم، وقد أشهدتك، فقال شريح: قسمة الله أعدل من قسمتك، فارددهم إلى سهام الله وفرائضه، وأشهدني؛ فإني لا أشهد على جور.

                                                                                                                                                                              وروينا عن غير واحد أنهم أوجبوا التسوية بينهم، ليس في أخبارهم ذكر الذكر والأنثى، قال طاوس : لا يفضل أحدا على أحد بشعيرة، وقد روينا عن عطاء أنه قال: سو بينهم، وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أحق تسوية النحل بين الولد على كتاب الله؟ قال: نعم.

                                                                                                                                                                              وكان النخعي يحب أن [ ص: 28 ] يسوي بينهم حتى في القبلة.

                                                                                                                                                                              قال سفيان الثوري : بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره أن يخص الرجل بعض ولده بالعطية، ولكن ينبغي له أن يسوي بينهم، الذكر والأنثى.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : والذي هو عندي أولى القولين التسوية بين البنين والبنات، يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سو بينهم" إذ لو كان بين ذلك فرق لأمر بتفضيل البنين على البنات.

                                                                                                                                                                              فإن قال قائل: إن بشيرا لم يكن له بنات ففي حديث:

                                                                                                                                                                              8822 - رواه زياد بن عبد الله البكائي، عن [ابن] إسحاق ، قال: وحدثني سعيد بن ميناء، أنه حدث أن ابنة بشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قال: دعتني عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر، وقالت: يا بنية اذهبي إلى أبيك، وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما. وذكر الحديث.

                                                                                                                                                                              8823 - حدثنا محمد بن علي ، قال: (حدثنا سعيد، قال) : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت البنات". [ ص: 29 ]

                                                                                                                                                                              وقد احتج بعض من رأى أن يفضل الرجل بعض ولده على بعض بحجتين:

                                                                                                                                                                              إحداهما: قوله: "ارجعه" وقد بدأنا بذكره في أخبار النعمان ، قال القائل منهم: ففي قوله "ارجعه" بيان على أن النحل الذي نحله والد النعمان كان جائزا.

                                                                                                                                                                              وحجتهم من النظر أنهم لما أجمعوا على أنه مالك لماله، فإن له أن يعطي ما شاء من ماله من شاء من الناس، فكذلك له أن يعطي ما شاء من ماله من شاء من ولده؛ إذ لا فرق بين ولده وبين سائر الناس.

                                                                                                                                                                              وعارضهم بعض من لا يرى أن لا يفضل بعضهم على بعض، فقال: قوله "ارجعه" يحتمل معنيين:

                                                                                                                                                                              يحتمل: ما قال من خالفنا.

                                                                                                                                                                              ويحتمل: أن يريد ارجعه؛ لأنه لا يجوز، فلما احتمل المعنيين وجب على أهل العلم طلب الدلالة على أصح المعنيين، فوجدنا الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: "لا تشهدني على جور" يدل على أن معنى قوله "ارجعه" لأن ذلك لا يجوز، وأما ما احتج به مما ذكر أن النظر يدل عليه فإنما يجب استعمال النظر فيما لا خبر فيه، فأما ما فيه خبر يمنع منه فلا معنى للاشتغال بالنظر فيه.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية