الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              باب ذكر إيجاب الجلد مع الرجم على الثيب واختلاف أهل العلم فيه

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في إيجاب الجلد مع الرجم على الثيب الزاني: فقالت طائفة: يجلد بكتاب الله، قال الله: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) ويرجم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وممن قال بهذا القول: [ ص: 428 ] علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبه قال الحسن البصري، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن أبي بن كعب أنه قال: البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يرجمان، واللذان قد بلغا سنا يجلدان ثم يرجمان .

                                                                                                                                                                              9121 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي حصين وإسماعيل، عن الشعبي، قال: أتي علي بشراحة فجلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، ثم قال: الرجم رجمان: رجم سر، ورجم علانية، فأما رجم العلانية فالشهود ثم الإمام ثم الناس، وأما رجم السر فالاعتراف فالإمام ثم الناس .

                                                                                                                                                                              9122 - حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا يعلى بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل، عن عمرو بن مرة الجملي، عن علي في المحصنة تزني قال: أجلدها بالقرآن، وأرجمها بالسنة .

                                                                                                                                                                              9123 - حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا حجاج، وحدثنا يحيى [ ص: 429 ] ، قال: حدثنا الحجبي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن فراس، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن أبي بن كعب قال: البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يرجمان، واللذان قد بلغا سنا يجلدان ثم يرجمان .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الثيب يرجم ولا يجلد. روي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وليس بثابت عنه .

                                                                                                                                                                              9124 - حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد قال: حدثنا الحجاج، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن شداد، أن عمر [رجم] رجلا في الزنا ولم يجلده .

                                                                                                                                                                              وبه قال النخعي، والزهري، وهو قول مالك، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، واحتج الشافعي بقول عمر على المنبر: الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا كان قد أحصن ولم يذكر جلدا، ورجم رسول الله [ ص: 430 ] صلى الله عليه وسلم ماعزا ولم يجلده، [وأمر] رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة فإن اعترفت رجمها، فكل هذا يدل على أن الجلد منسوخ عن الثيب، وكل الأئمة عندنا رجم بلا جلد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد عارض الشافعي بعض أهل العلم في هذا الباب فقال: جلد مائة ثابت على كل زان بظاهر كتاب الله وهو قوله: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) لم يفرق بين البكر والثيب في ذلك، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثيب الرجم، فالجلد ثابت على كل زان في كتاب الله، والرجم ثابت على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد ما ذكرناه تأكيدا حديث عبادة بن الصامت الذي فيه الجمع بين الجلد والرجم على الثيب، وقد استعمل ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب، وقال به أبي بن كعب، ولو لم يكن في هذا من البيان إلا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه كفاية، فكيف بظاهر الكتاب يوجب على كل زان جلد مائة، وليس في أمر ماعز وامرأة الأسلمي دليل على نسخ الجلد عن الثيبين، وغير جائز أن يثبت نسخ بغير حجة، وأكثر ما في حديث ماعز أنه لم يبلغنا [أن] النبي صلى الله عليه وسلم جلده، وكذلك لم يبلغنا أن أنيسا جلد المرأة، وما ثبت بكتاب الله وبالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزول بشك في حديث ماعز؛ إذ جائز أن يكون جلده فلم يؤد ذلك إلينا لاستغناء المؤدي عن ذلك بكتاب الله، بل هو كذلك - إن [ ص: 431 ] شاء الله - وإنما [أدى] من أمر ماعز ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس بثابت في كتاب الله، وإذا قال قائل إن القرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله كان غير جائز أن ينسخ القرآن بالسنة، ثم أبعد من ذلك أن يقع نسخ بتوهم متوهم، حيث لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد ماعزا، وقد قال قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أنيسا أن يرجم امرأة الأسلمي إن اعترفت، ولم يقل ارجمها حتى تموت، وقد يقع اسم الرجم على دون ذلك، فاستغنى بمعرفة أنيس بذلك إذ كان [ذلك] عنده معلوما، كان كذلك لما كان ذكر الجلد معلوما عند أنيس أغناه ذلك عن إعادة ذكر ما قد علمه من إيجاب الله الجلد على كل زان. وقد ذكر الشافعي العمرة وقال: فإن [قال] قائل فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أن تقضي الحج عن أبيها فلم يحفظ عنه أن تقضي العمرة، قيل له: إن شاء الله قد يكون في الحديث الزيادة فيحفظ بعضه دون بعض، ويحفظ كله ويؤدى بعضه، ويستغنى أن يعلم أن الحج إذا قضي عنه فسبيل العمرة مثله، فإن قال قائل: وما يشبه ما قلت؟ قلت: روى عنه طلحة أنه سئل عن الإسلام فقال: "خمس صلوات في اليوم والليلة". وذكر الصيام، ولم يذكر حجا ولا عمرة من الإسلام، وغيرها مما يشبه هذا، والله أعلم، فإن قال قائل: وما وجه هذا؟ قيل له: ما وصفت من أن يكون في الخبر فيؤدى بعضه دون بعض، أو يحفظ بعضه دون بعض، أو يكتفى بعلم السائل، [ ص: 432 ] أو يكتفى بالجواب عن المسألة ثم يعلم السائل بعد فلا يؤدى ذلك في مسألة السائل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وإذا أخذت هذه المعاني اللطيفة التي ذكرها الشافعي وامتثلت ذلك في باب الجلد والرجم، كان جوابا حسنا، ومخرجا بينا لمن رأى أن حديث عبادة بن الصامت يجب استعماله إذ لا شيء ينسخه .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية