الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر، ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبه هؤلاء المشبهون في دعواك.

وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله يوم القيامة فقلت: ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا: أرنا الله جهرة [النساء: 153 ] أخذتهم الصاعقة، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [البقرة: 55 ] فأخذتهم الصاعقة، وقالوا: أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا [ ص: 408 ] [الفرقان: 21 ] فادعيت أن الله تعالى أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية.

فيقال لهذا المريسي: تقرأ كتاب الله تعالى وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه، ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافا فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [البقرة: 55 ] ولم يقولوا: حتى نرى الله في الآخرة، ولكن في الدنيا، وقد سبق من الله القول بأنه لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103 ] أبصار أهل الدنيا فأخذتهم الصاعقة بظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا، ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم لم تصبهم تلك الصاعقة، ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ سألوه "هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: نعم، لا تضارون في رؤيته" فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك، بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة، كما رويت أيها المريسي عنه، وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه. فقال عز من قائل: [ ص: 409 ] وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة: 22، 23 ]. وقال للكفار: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين: 15 ].

إلى أن قال: (وقد فسرنا أمر الرؤية، وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرا في صدر هذا الكتاب أيضا، فالتمسوها هناك، وأعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي [وضلال ] تأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى ). [ ص: 410 ]

وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار: مثل حديث جرير، وأبي هريرة، وأبي سعيد المشهورين الطويلين، وهذه في الصحيحين، [ ص: 411 ] ومثل حديث صهيب في قوله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس: 26 ]. [ ص: 412 ]

وحديث أبي موسى، وجابر في الورود، وهذه في [ ص: 413 ] صحيح مسلم، ومثل حديث ابن عمر في الدجال: "واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت" وهذه الألفاظ في الصحيح، وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع، [ ص: 414 ] وحديث عبادة في الدجال، وحديث ابن الحسين عن [ ص: 415 ] بعض الصحابة، وحديث ابن عباس، وحديث [ ص: 416 ] أنس في يوم المزيد، وحديث عمار بن ياسر الذي فيه: [ ص: 417 ] "أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك" وحديثا عن ابن عمر في النظر، وهذه الأحاديث في السنن والمسانيد، [ ص: 418 ] وذكر الآثار عن الصديق، وحذيفة، وأبي [ ص: 419 ] موسى، وابن أبي [ ص: 420 ] ليلى، والضحاك، وعامر بن سعد في تفسير "الزيادة" [ ص: 421 ] أنها النظر إلى وجه الله تعالى، وذكر قول أبي موسى: "فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة" وذكر أيضا النظر إليه عن [ ص: 422 ] عمار، وأنس، والضحاك، وعكرمة، [ ص: 423 ] وكعب، وعمر بن عبد العزيز. والذي تركه من ذلك أكثر [ ص: 424 ] مما رواه.

ثم قال أبو سعيد: (فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديما وحديثا يروونها ويؤمنون بها، لا يستنكرونها ولا ينكرونها، ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال؛ بل كان من أكبر رجائهم وأجزل ثواب الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم [ ص: 425 ] القيامة، حتى ما يعدلون به شيئا من نعيم الجنة ) قال: (وقد كلمت بعض أولئك المعطلة ) وذكر كلاما طويلا في تقرير الرؤية، والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال: (وقال بعضهم: إنا لا نقبل هذه الآثار [ولا نحتج بها ] قلت: أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون ! ! أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنا بعد قرن؟ قالوا: نعم، قلنا: فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء، فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها، فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولا أثر، وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لا يستدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار والأسانيد على ما فيها من الاختلاف، وهي السبب إلى ذلك، [ ص: 426 ] والنهج الذي درج عليه المسلمون، وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى: منها يقتبسون العلم، وبها يقضون، وبها يفتون، وعليها يعتمدون، وبها يتزينون، يورثها الأول منهم الآخر، ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجا [بها ] واحتسابا في أدائها إلى من لم يسمعها، يسمونها السنن والآثار، والفقه، والعلم، ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها، يحلون بها حلال الله تعالى، ويحرمون بها حرامه، ويميزون بها بين الحق والباطل، والسنن والبدع، ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه، ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى، فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم، ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه، وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى الله به، فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم، واقتبسوا الهدي في سبيلهم، وارضوا بهذه الآثار إماما كما رضي بها القوم لأنفسهم إماما، فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم، بل أضل وأجهل، ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على [ ص: 427 ] ما تروى، فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين، وقال الله: ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115 ].

التالي السابق


الخدمات العلمية