الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما قوله: (ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث -أعني على العمل- لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم؛ بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلناه ).

فيقال: الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم، بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالما، وهذا في [غاية ] [ ص: 189 ] الجهل، كما قد بسطنا في غير هذا الموضع، بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع، وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك. فكيف بمن يقول إنها [ ص: 190 ] المقصود فقط وما سواها وسيلة؟ ! هذا لعمري لو كان [ ص: 191 ] مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل، فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل؛ بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع، فالعلم بمنزلة السبب، والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود، ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وعبادة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة، والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وتعالى، وأن يكون العبد عابدا له، قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56 ] وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية، بل أصل العبادة كمال معرفته، وكمال محبته، وكمال تعظيمه، وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة. فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع، وكل منهما معين للآخر وشرط [ ص: 192 ] في حصول المقصود بالآخر، فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لا يحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل، والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل؛ بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر، فلا بد من سلوك الطريقين معا ليس ذلك في وقت واحد، ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقا لما أخبر به الرسول وأمر به، فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم. الذين هم المفلحون، وإلا كان من المغضوب عليهم والضالين: مثل من اقتصر على النظر دون العمل، أو على العمل دون النظر، أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به، فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتكلمين، أو عمل مجرد غير شرعي كحال كثير من عباد المتفلسفة والمتصوفين فهذا هذا والله أعلم.

[ ص: 193 ] ولا ريب أن من أشهر مشايخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني شيخ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري، وأبا القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما، فلينظر ما ذكره هؤلاء في مصنفاتهم؛ ولهذا لما كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين -وهي حجة الأعراض- مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا [ ص: 194 ] وكانت في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية، وكانت بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ما تؤول إليه، كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك، حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في "ذم الكلام وأهله":

التالي السابق


الخدمات العلمية